بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 تشرين الثاني 2024 12:00ص مَا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ: اِبْتِسَامَةٌ نَاصِعَةٌ وَوَجْهُ شُحُوبٍ

حجم الخط
د. غازي قانصو

فِي قَلْبِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَلِيءِ بِالتَّنَاقُضَاتِ، يَقِفُ الْإِنْسَانُ حَائِراً بَيْنَ قُوَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ تَشَكِّلَانِ عُمْقَ تَجَارِبِهِ الْحَيَاتِيَّةِ: الْمَحَبَّةُ وَالْكَرَاهِيَةُ. هُمَا لَيْسَا مُجَرَّدَ مَشَاعِرَ عَابِرَةٍ، بَلْ قُوًى جَاذِبَةٌ تَدْفَعُ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ إِمَّا نَحْوَ النُّورِ أَوْ نَحْوَ الْعَتَمَةِ. وَبَيْنَهُمَا، مَسَافَةٌ لَيْسَتْ بَعِيدَةً، لَكِنَّهَا كَفِيلَةٌ بِأَنْ تُغَيِّرَ مَلَامِحَ الرُّوحِ، وَأَنْ تَصْنَعَ الْفَارِقَ بَيْنَ حَيَاةٍ تُعَاشُ بِفَرَحٍ وَبَيْنَ أُخْرَى تُسْتَهْلَكُ بِأَلَمٍ. إِنَّ الْمَحَبَّةَ، بِلُطْفِهَا وَسَلَامِهَا، وَالْكَرَاهِيَةَ، بِحِدَّتِهَا وَشَرَاسَتِهَا، تَقِفَانِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا فُسْحَةٌ صَغِيرَةٌ، تَخْتَصِرُهَا اِبْتِسَامَةٌ نَاصِعَةٌ أَوْ وَجْهُ شُحُوبٍ.
الْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ فَقَطْ شُعُوراً نُمَارِسُهُ تِجَاهَ الْآخَرِينَ، لَكِنَّهَا أَيْضاً اِنْعِكَاسٌ لِصُورَةِ الذَّاتِ. هِيَ النُّورُ الدَّاخِلِيُّ الَّذِي يَنْعَكِسُ عَلَى الْمَلَامِحِ، يَجْعَلُ مِنَ الْاِبْتِسَامَةِ حَدِيثاً صَامِتاً يَحْمِلُ مَعَانِيَ الدِّفْءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. الْمَحَبَّةُ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا غُفْرَاناً، تَعَاطُفاً، وَقُدْرَةً عَلَى رُؤْيَةِ الْجَمَالِ حَتَّى فِي أَضْعَفِ الْمَوَاقِفِ. إِنَّهَا تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي تُنْعِشُ الْحَيَاةَ وَتَجْعَلُهَا قَابِلَةً لِلْعَيْشِ، لِأَنَّهَا تُقَرِّبُ الْمَسَافَاتِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَتَزْرَعُ فِيهَا بُذُورَ الْأَمَلِ.
وَعَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، تَأْتِي الْكَرَاهِيَةُ، كَجُرْحٍ مَفْتُوحٍ لَا يَلْتَئِمُ، وَكَنَافِذَةٍ تُطِلُّ عَلَى الْعَدَمِ. هِيَ الْوَجْهُ الْآخَرُ لِلْإِنْسَانِ حِينَ يَخْتَارُ الْإِنْغِلَاقَ عَلَى ذَاتِهِ، وَيَدَعُ لِلنَّارِ الْمُسْتَعِرَةِ فِي دَاخِلِهِ أَنْ تُحْرِقَ كُلَّ مَا هُوَ جَمِيلٌ. الْكَرَاهِيَةُ تُشَوِّهُ مَلَامِحَ الرُّوحِ قَبْلَ أَنْ تَطَالَ الْجَسَدَ، تَغْمُرُهُ بِالشُّحُوبِ، وَتَمْلَأُ الْقَلْبَ بِأَثْقَالٍ مِنَ الْحِقْدِ وَالضَّغِينَةِ. إِنَّهَا تَخْنُقُ الْاِبْتِسَامَاتِ، وَتُحَوِّلُهَا إِلَى صَرَخَاتٍ صَامِتَةٍ تَعْكِسُ اِنْكِسَارَاتِ النَّفْسِ.
وَمَا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ، تَقِفُ الْإِرَادَةُ، هَذِهِ الْقُوَّةُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي يَمْتَلِكُهَا الْإِنْسَانُ، لِيَخْتَارَ أَيَّ الْوَجْهَتَيْنِ يَسْلُكُ. كَثِيراً مَا تَكُونُ الْكَرَاهِيَةُ نَتِيجَةَ خَيْبَةٍ، أَوْ خَوْفٍ دَفِينٍ مِنَ الْآخَرِ، لَكِنْ بِالْإِرَادَةِ الْوَاعِيَةِ، يُمْكِنُ لِلْمَحَبَّةِ أَنْ تَنْتَصِرَ وَتُعِيدَ تَشْكِيلَ الرُّوحِ بِلُغَةِ السَّلَامِ. الْاِبْتِسَامَةُ هُنَا لَيْسَتْ فَقَطْ تَعْبِيراً عَنْ السَّعَادَةِ، بَلْ هِيَ أَيْضاً رَمْزٌ لِلْاِنْتِصَارِ عَلَى الشُّحُوبِ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْكَرَاهِيَةُ.
خِتاماً، إِنَّ الْحَيَاةَ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ تُسْتَهْلَكَ بِالْكَرَاهِيَةِ، وَأَثْمَنُ مِنْ أَنْ تَضِيعَ بَعِيداً عَنْ الْمَحَبَّةِ. الْمَحَبَّةُ هِيَ الْأَصْلُ، هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي جُبِلَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا، أَمَّا الْكَرَاهِيَةُ فَهِيَ اِنْحِرَافٌ عَنْ هَذَا الْمَسَارِ النَّقِيِّ. حِينَ يَخْتَارُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَبْتَسِمَ، أَنْ يُحِبَّ، فَإِنَّهُ لَا يُمْنَحُ الْعَالَمَ نُوراً فَقَطْ، بَلْ يُمْنَحُ ذَاتَهُ فُرْصَةً لِيَحْيَا بِسَلَامٍ.
وَمَا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ، اِبْتِسَامَةٌ يُمْكِنُهَا أَنْ تُغَيِّرَ مَسَارَ الْحَيَاةِ، وَوَجْهٌ شُحُوبٍ يَنْذُرُ بِحِكَايَةٍ أَفَلَتْ مِنْهَا شَمْسُ الْأَمَلِ. اِخْتَرْ الْمَحَبَّةَ، لِأَنَّ فِي طَيَّاتِهَا السَّلَامَ، وَاِبْتَسِمْ، لِأَنَّ فِي اِلْاِبْتِسَامَةِ قُدْرَةً عَلَى تَرْتِيبِ فَوْضَى الْقُلُوبِ وَإِعَادَةِ شَكْلِ الْعَالَمِ.