بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 شباط 2023 12:26ص التكاثر السكاني ما بين أحلام ابن خلدون وواقعية مالتوس

حجم الخط
باسم المجذوب

هل تتسع الأرض لساكنيها؟ سؤال يطرح نفسه فالتطور الذي رافق البشرية في عقودها الأخيرة جعل من العالم أصغر من تحمّل كثافة البشر وتزايد السكان مما جعل الموارد تتقلص عن حاجات الإنسان ومتطلباته, فعلوم الطب تطورت واكتشافات العلاج لأمراض كانت تعتبر مستعصية وتقتل ملايين البشر تم اكتشاف علاجات لها فتزايدت معدلات عمر الإنسان, كما أن الحروب التي كانت تتكرر بشكل أسرع خفّت وتيرتها فتحوّلت من حروب للكبار الى حروب الصغار أو حروب بالإنابة أو حروب اقتصادية, وعوض أن تفقد الدول العظمى أعداد هائلة من مواطنيها في حروب كبرى ويتم استعمال الأسلحة الفتّاكة الحديثة التي تقتل من البشر أعداد ضخمة بضربات محدودة, اقتصرت الحروب على خسائر تابعيها والدائرين في فلكها من الدول الفقيرة. هي سياسة الدول الكبرى في تجنيب مواطنيها أعداد من الضحايا من جهة ومن جهة أخرى تستهلك مخزوناتها الهائلة من الأسلحة التقليدية والتي تتحدث خصائصها مع تطور علوم صناعات الأسلحة, وبدل إتلافها يتم بيعها لأتباعها من الدول النامية التي تدور في فلك مؤامراتها وخططها معتمدة على إثارة الفتن والخلافات بمختلف أنواعها من عرقية وطائفية ومذهبية وشتى أنواع الخلافات التي لا تصعب على أجهزتها من خلقها لدى شعوب تتملك بها غرائز تجعل من السهل استغلالها لإنجاح مخططات الكبار عند الحاجة إلى إشعالها.
نتيجة ذلك انخفضت أعداد الضحايا وأدّت لتزايد كثافة البشر عن قدرة موارد الأرض على استيعاب حاجاتها, إضافة إلى التطور الصناعي والعمراني ألذي قضى على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي كانت تورد الإنسان غذائه.
بلغ عدد سكان العالم الـ 7.8 مليار نسمة مع منتصف العام 2020, منهم فقط 1.3 مليار يعيشون في الدول الأكثر تقدّما و6.5 مليار يعيشون في الدول النامية, في السنوات المائة الأخيرة تضاعف عدد سكان العالم بنحو أربعة أضعاف كما تزايد إنتاج الغذاء إنما بنسبة غير متوازية مع التزايد السكاني الذي استمر يتزايد بشكل مضطرد يفوق نمو إنتاج الغذاء, وإذا ما استمر التطور الديموغرافي بهذا الشكل فسوف يصل عدد سكان الأرض إلى حوالي العشرة مليار نسمة في عام 2050 ولتوفير مواد كافية من الغذاء لإشباع هذا الكم من البشر يتطلب من الإنتاج الزراعي زيادة 3 أضعاف إنتاجه, هل بإمكان موارد الأرض المحدودة إنتاج الكمية المناسبة لغذاء البشر؟ وهل سيجد العالم في المستقبل غذاء كافيا؟
في الوقت الحالي يتم الإعتماد على 40% فقط من مساحة الأراضي في العالم للإنتاج الزراعي, ففي الدول المتقدمة لا توجد مناطق صالحة للزراعة لم يتم استغلالها بعد, بخلاف مناطق الدول النامية حيث يتم استغلال ثلث المناطق الصالحة للزراعة بشكل فعلي, فالمشكلة اليوم هي في الدول النامية فالتوازن المطلوب بين متطلبات الأمن الغذائي لتلك الشعوب وطاقات انتاجها منه غير متوفر, فأعداد سكان الدول النامية بلغت خمسة أضعاف سكان الدول الأكثر تقدّما فمن الطبيعي أن يستهلكوا القسم الأكبر من منتوج العالم الزراعي وواقع استغلالهم المحدود للأرض الزراعية لا يتناسب مع حاجاتهم المتزايدة للغذاء, فلا بد من حلول لتلك المعضلة.
الحل المنطقي والأمثل هو الإنماء الزراعي للدول النامية وتطويره كي يتلاءم مع حاجات شعوبها وتحقيق الإكتفاء الذاتي, وهذا يتطلب جهودا جبارة من المنظمات الدولية العاملة في هذا المضمار وأموالا ضخمة ترصد لذلك ومساهمات سخيّة من الدول الغنية والمتطورة, علما ان الفقر عادة يترافق مع الفساد في الهيئات الحكومية لتلك الدول مما يجعل المهمة معقّدة وأحيانا مستحيلة التحقيق, فالفساد عدو الإنماء والتقدّم وعنوان لإساءة استغلال المساعدات المقدمة من الهيئات المانحة.
الحل الآخر والأسهل قد يكون تخفيض استهلاك الدول النامية للغذاء, وعن كيفية الوصول إلى تخفيض استهلاك الدول للغذاء فقد يكون الجواب بالحد من أعداد سكانها ونمو حاجاتها بطريقة أو أخرى, فالغذاء لا يتم توزيعه عن طريق الصدقات إنما يجب اكتساب القدرة على تحصيله, فمن ليس له من يعيله ولا يعمل سيجد ان ليس له نصيبا من الغذاء على أرضه فهو عضو زائد غير فعّال وعاجلا أو أجلا فإن الطبيعة ستأمر بمغادرته.
وهذا قد ظهر في نظرية مالتوس حول التكاثر السكاني, في أن العلاقة وطيدة بين تطور عدد السكان وتطور كمية الإنتاج بإدخال عنصري الزمن والحركة في دراسة الفعاليات الاقتصادية مما جعل علم السكان عاملا فعّالا يدخل في صميم السياسة الاقتصادية وتحديد نسبة النمو فيه.
تختصر تلك النظرية بالتناسب الطردي بين حجم السكان والموارد الغذائية, وزيادة عدد السكان لا بد أن تصاحبه زيادة في موارد الطبيعة, فسبب الفقر في المجتمع هو ان عدد السكان أكثر من العدد الكافي لإشباع حاجاتهم وأن قدرة الإنسان على التناسل أكبر من قدرة الأرض على إنتاج ما يتطلبه البقاء الإنساني من غذاء.
بحسب نظرية مالتوس سكان الأرض يزدادون عامة على أساس متتالية هندسية 2-4-8-16, بينما الزيادة في الموارد الغذائية تحصل على أساس متتالية عددية وحسابية 1-2-3-4 وسكان العالم سيواجهون اجلا أو عاجلا مشكلة نقص الغذاء.
حدد مالتوس نوعين من الموانع التي من شأنها أن تساعد على الحد من الزيادة السكانية, أولها وسُمّيت بالموانع الوقائية وهي التي تعرقل نمو السكان بأسلوب غير مباشر من خلال إسهامها في خفض نسبة المواليد وتعتمد على إرادة الإنسان في منع الشر قبل وقوعه فإذا كان قادر ماديا على الزواج فليتزوج أما إذا كان غير قادر على إطعام الأسرة التي يزمع تكوينها فعليه تأخير سن الزواج أو إلغائه, أما الثانية فتسمّى بالموانع الإيجابية وهي تشمل كافة العوامل التي تؤدي إلى قصر فترة الحياة وزيادة نسبة الوفيات, من شاكلة الأمراض والأوبئة والحروب والمجاعات, لقد انتقد مالتوس في هذا الإطار الفقراء الذين يتزوجون كي ينجبوا أطفالا ليس لهم مكان شاغر على مائدة الطبيعة وليس لهم الحق في طلب المعونة من المؤسسات الخيرية ما دام قد اقترفوا ذنبا بحق أنفسهم بمعارضتهم قوانين الطبيعة وعدم الإصغاء لصوت العقل, ويضيف أن الفقير يتهم المجتمع ومؤسساته بعدم إعالته وقوانين السماء لأنها وضعته في أدنى السلم الاجتماعي محاطا بالبؤس والفقر وفي محاولاته للبحث عن مصدر بؤسه وشقائه ليوجه إليه الإتهام, فأنه ينسى المصدر الوحيد لما يعانيه من فقر وتعاسة وهذا المصدر هو نفسه وهو وحده الذي يستحق اللوم والعتاب.
ابن خلدون سبق مالتوس بقرون وأتت نظريته مخالفة, فهو منذ القرن الرابع عشر تحدث عن الصلة الوطيدة بين عدد السكان ومستوى الحضارة, ففي مقدمته يشير ابن خلدون إلى قيمة القوة السكانية وقدرتها على تحقيق التنمية واعتبرها من مقوماتها ففي نظره تؤدي الزيادة السكانية الى الزيادة في درجة العمران ونقصها يعيق التنمية في بدايتها ويضعفها في نهايتها, وقد ذكر ان الترف يزيد الدولة قوة الى قوتها والوصول الى الترف يحتاج إلى كثرة التناسل, فكثرة العصابة تستكثر أيضا الموالي والصنائع, والأمصار القليلة العدد يقل فيها الرزق والكسب لقلّة العمالة وينخفض فيها العمران, كما ان انتقال الإنسان من طور البداوة الى الحضارة يساهم في الإزدهار الحضاري بتحوّله الى الصناعة وهي ركن اساسي في الاقتصاد.
افترض ابن خلدون أن الدورة السكانية تبدأ بإرساء نظام حكومي قومي جيد التنظيم يتبعه استقرار سياسي ورخاء اقتصادي يعتمد على زيادة الإنتاج الزراعي وتقسيم العمل والتخصص ويؤدي ذلك إلى ارتفاع مستوى المعيشة ونمو السكان, وبعد مرحلة من الرخاء والرفاهية تأتي مرحلة من الفساد تؤدي الى عدم استقرار اجتماعي واضطراب سياسي وضعف سلطة الدولة وتتميز فترة التدهور هذه بنقص في عدد السكان وبعد ذلك وعند ظهور سلطة جديدة من داخل الدولة أو خارجها تبدأ مرحلة جديدة من مراحل الاستقرار السياسي لتعود الدورة لتكرار بدايتها, واختلاف مدة الدورات السكانية هذه تختلف في الزمن والمكان, إلا انها عادة ما تستغرق وتشمل عدة أجيال.
المتغيّرات الإنسانية كما يرى ابن خلدون هي العنصر الأساسي, فالأفراد في المجتمعات يعيشون ويعملون ويتزاوجون وفي حالة حركة ديناميكية ويشكّلون الثروة الحقيقية للمجتمع, فلولا العنصر البشري على وجه الأرض ما انتشر العمران وما قامت حضارة, والمشكلة ليست في تكاثر السكان بل في قيام دولة ونظام صالح يحدد الأطر ويرسم المستقبل وينظم الأدوار لمواطنيه ويعيد توزيع السكان لخلق معادلة في الكثافة السكانية في خدمة الدورة الاقتصادية لينتشر التوازن ما بين الحاجات والامكانات المطلوبة لتلبيتها.
علم التكاثر السكاني لا يتجزأ ولا ينفصل, فهو يعتمد على تاريخ الأحداث والأرقام والنتائج والتي من خلالها تستنبط النظريات والسياسات ليستكمل دورته, وبسببه قد تنشب الثورات الداخلية والحروب والصراعات بين الأمم فالغذاء يأتي في الدرجة الأولى لاهتمامات البشر وهو شغلهم الشاغل, وما بين ابن خلدون ومالتوس يحدد العالم خياراته والواضح أن العالم قد حدّدها, فهو قد اعتمد نظرية مالتوس في الخفاء ونظرية ابن خلدون في العلن.