بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 تشرين الأول 2024 12:00ص أحوال بيروت الإجتماعية في عيون الرحّالة القدماء (1)

السبيل ماء في سوق بيروتي مطلع القرن العشرين السبيل ماء في سوق بيروتي مطلع القرن العشرين
حجم الخط
في نهاية القرن الرابع الميلادي، كتب الشاعر الملحمي اليوناني ننّوس ملحمته الكبرى «الديونيزيّات» Dionysiaca في 48 نشيداً ضمّت 20426 بيتاً من الشعر. قال في النشيد 41 المقطع 390: 
إقترِبن، يا حوريّات لبنان، يا عرائس الشّعر،
إقترِبنَ إلى هذا السّهل في جوار بيرُوِيه (Beróē) وصيفة الشرائع!
إنها مدينة «بيرويه»، سحر حياة الإنسان، مرفأ كل حبّ، الراسخة فوق البحر،
ذات الجزر الرائعة والخضرة الممرّعة،
تمتدّ من أحد الجوانب، منتشرة تحت جسر كثيف من غابات لبنان
في هذا الشرق المتوهّج، حيث يهبّ على سكانها
نسيمٌ منعشٌ للحياة، يوشوش عالياً، وهو يحرّك أشجار السّرو 
بنفحاتٍ من العطور.
ها هي بيرويه! [بيروت]
موجودة هنا منذ الزمن الأول، مولودة مع الأرض، معاصرةٌ إيّاها.
يا بيروت، أرومة الحياة، مرضعة المدن، مفخرة الأمراء، أولى المدن المنظورة، الأخت التوأم للزمن، المعاصرة للكون، كرسي «هرمس»، أرض العدالة، مدينة الشرائع، عرزال البهجة، معبد كلّ حُبّ.
في مطلع ثمانينيات القرن الخامس عشر الميلادي، وصف النبيل الفلمنكي فان غيستيل Joos van Ghistele بيروت بأنها «مدينة عامرة بالمنازل والناس تحيط بها المراعي والجنائن، خاصة أشجار الرمان والليمون والحامض والزيتون والتين واللوز. وهواء المدينة نقيّ لدرجة أن المرضى من تجار دمشق وحلب وطرابلس يقصدونها للمعافاة..».
وفي سبعينيات القرن السابع عشر كانت بيروت محطة للقناصل والتجار الأجانب المقيمين في صيدا وغيرها من المدن الساحلية وذلك لمزاولة رياضة الصيد، ويتضح ذلك من خلال مدونة رحلات وانلسبن Johann Michael Wanselben إلى بلاد الشام 1671-1674 حيث ذكر الرحّالة أنه بتاريخ 18 شباط سنة 1672 قرّر المسيو بونكور Bonnecorse المقيم في صيدا مع بعض التجار الذهاب إلى بيروت لأجل الصيد وأقاموا فيها ثمانية أيام. يقول وانسلبن: «كنت توّاقاً للذهاب معهم لو لم يكنّ عليّ حرارة في ذلك اليوم».
حوالى العام 1785 زار المؤرخ الفرنسي فولني: Constantin-François de Chasseboeuf, count de Volney بيروت. ومما قاله عن إجتماعيات أسواق بيروت في ذلك الوقت: «ومما يجدر ذكره ذاك الظاهر لملامح وأحاديث السكان الدال على الورع والتقوى، فلا يُرى في الطريق والأسواق إلّا أناس في أيديهم المسابح، ولا تسمع إلّا ابتهالات مفخمة موجهة إلى لله تعالى، ويطرق أذنك على الدوام ذكر صفة من صفات لله التسع والتسعين (أسماء لله الحسنى). إذا استفزّ أحدهم الحديث قال: يا لله، أو لله أكبر، لله تعالى. وإذا باع أحدهم خبزاً فإنه لا ينادي بخبزه بل يقول: لله كريم، وإذا باع ماءً قال: لله جواد، وقسْ على ذلك سائر الأحوال».
وفي مستهلّ القرن التاسع عشر كان الزائر الغربي تؤثر فيه المشاهد المحلية الغريبة. فكان يرى الرجال بسراويلهم الواسعة أو غنابيزهم (جمع غنبار أو خنباز) المقلّمة، والنساء، سواء كن نصرنيات أو مسلمات يخرجن إلى الأسواق محجبات... وكان الغربي يرى الناس في هذا الجزء من العالم يعيشون في عالم حالم يسير ببطء. ولكن ما أن انصرم القرن حتى أصبح الغريب الزائر يشعر في بيروت أنه ليس غريباً في بلاد غريبة. وقد أسهب القس الأميركي فان لينيب Henry J. Van-Lennep المولود في إزمير سنة 1815 في وصف الحياة الاجتماعية في بيروت وسائر لبنان في كتابه «Bible Lands: Their Modern Customs and Manners» المطبوع في نيويورك سنة 1875.
كما استرعت أحوال البيارتة الإجتماعية في المقاهي انتباه واهتمام الرحّالة الأجانب الذين دوّنوا مشاهداتهم في هذه الأماكن. أحد هؤلاء كان الأميركي جون روس براون John Ross Browne الذي كتب كتاباً استعرض فيه رحلاته أسماه «يوسف؛ رحلة الأفندي» استفاض فيه بمشاهداته لشخصية «الحكواتي» المعروفة.
في سنة 1872 زار الدبلوماسي الفرنسي الفيكونت دي فوغيه (Marie-Eugène-Melchior vicomte de Vogüé) بيروت، وبعد جولة له في أسواق البلدة، وصف جوانب من حياتها الاجتماعية كاتباً: «وخارج الأسواق تعتبر الطرقات بمعناها المألوف واسعة ومستقيمة وعلى الطريقة الأوروبية، وحولها بيوت جديدة من الطراز الفرنسي والعربي، بداخلها أشجار التين والصبّير والآكاسيا والرّمان. وما يلفت النظر هو أشكال السكان، وفي إطار هذه العلاقة، يظهر الفارق كبيرا بين منظر المدينة التركية ومنظر المدينة العربية. ويجد المرء في أي مكان وراء هذه الأزياء المختلطة والمزاجية مع بعض التعديلات في العائلة والقبيلة، البنية الطويلة والنحيفة والعضلات الصّلبة والجبهة العريضة والبارزة للعرق السامي. ويشاهد المرء أيضاً بعض الدروز الملتفين على نحو مميّز بعباءاتهم، وبعض الشيوخ الشاميين والبدويين الهذيلين والقذؤين وكذلك الأروام (اليونان) بالإضافة إلى أناس من الجبل والصحراء. لكن العنصر المسيطر على التجارة هم الموارنة».
وقد أشار الرحّالة المصري عبد الرحمن بك سامي الذي زار بيروت سنة 1912 إلى الطبقات الإجتماعية في المدينة بقوله:
«ومما أدهشنا أن بعض أسواق بيروت في داخل المدينة ضيّق حرج وذلك لأنها بنيت قبل أيام التنظيم حين دعت الضرورة إلى بنائها على هذا الطراز. ولكن من يدخل البيوت يرى في الداخل ما لم يره في الخارج حيث الأرض مفروشة بالمرمر والرخام، والبيوت مبنية على أتمّ إتقان وأحسن هندام، والنوافذ كلها تطلّ على البحر فيتجدد الهواء في البيوت، وذلك مما يجعل المقام في بيروت أحب من السكنى في غيرها من المدن».
وأضاف في موضع آخر: «تحتوي هذه المدينة على كل طبقات الناس، ففيها الأغنياء وأصحاب البنوك كالسادات بيهم وأياس والخواجات بسترس وسرسق وتويني وغيرهم. وفيها المتوسطون كتجار المانيفاتورة، وأصحاب المخازن وغيرهم، وفيها أصحاب الحرف والصنائع وغيرهم. وكل هذه الطبقات تأتلف بعضها مع بعض ولا سيما في أيام المواسم والأعياد حتى تكاد لا تميّز بين غنيهم وفقيرهم...».
عن عادات البيارتة في اللباس، دوّن الروائي والرحّالة الإيرلندي أليوت واربيرتون مشاهداته أثناء زيارته لبيروت سنة 1843، وقال: «الرجال، مسيحيين ومسلمين على حد سواء، يعتمرون العمائم، وسراويل فضفاضة مربوطة عند الركبة، وصدريات حريرية مزرّرة تصل حتى الرقبة. وكان يُلبس فوق هذا، في أيام الآحاد والأعياد، شال كبير فضفاض يمنح المجموعات مظهراً رائعاً، كما يمنح الأفراد مظهراً كريماً للغاية». وكتب الألماني أوبنهايم: «عند نهاية القرن التاسع عشر أصبح الطابع العام لمدينة بيروت المتطورة باستمرار أوروبياً بالكامل تقريباً. صحيح أن الألوان الشعبية الزاهية الألوان والتي ما زال السكان الفقراء يلبسونها، والعدد اللاحصري له من طرابيش «فيس» [فاس] الحمراء، تذكّرنا دوماً بأننا موجودون في الشرق وإن كان الكثير من المسلمين والمسيحيين المحليين يرتدون ملابس أوروبية... الشوارع الجديدة في بيروت عريضة وتضاء ليلاً بمصابيح غاز. أما في الأحياء القديمة والفقيرة فلم يزل الناس يتلمّسون طريقهم ليلاً في الأزقة الضيقة المتعرّجة بواسطة الفانوس». ومما دوّنه الشيخ القاياتي في «نفحة البشام» عن عادات البيارتة في الملبس سنة 1882: «أما عاداتهم في الملبس، فثمة - وهو الغالب - من يلبس الطربوش الإفرنجي والسترة والبنطلون ويحلق لحيته ويبقي شعر رأسه، وثمة من يرتدي القفطان (القنباز)، وفوقه الجبّة أو المضربية أو السترة الطويلة، وكلاهما ينتعل الجزمة (الليستيك)، فيما قلّة تنتعل المركوب من الفقراء. وثمة أيضاً من يتخذ البدلة العثمانية والسروال الكبير الواسع والطربوش الإسكندراني. كذلك النساء يختلف لباسهنّ، بين «الإزار الأبيض الناصع أو الملاءة الحرير»، أو المناديل الرقيقة الإسلامبولية على الوجوه، وفي الأرجل الجزم الإفرنجية بالنسبة إلى المسلمات، و«الفساتين الواسعة من الشيت والصوف الإفرنجي والحرير الملون»، مع الطرح الرقيقة أو المناديل، بالنسبة لنساء النصارى اللواتي يظهرن سافرات الوجوه...».
مصادر ومراجع هذا البحث متوفرة لمن يرغب.

SRMpharm@gmail.com 
(مجموعة المؤرخ بدر الحاج).