بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 نيسان 2021 12:00ص الدكتور أحمد أبو حاقَّة (1929-2011) أستاذ جيل ومنارة علم وإشراقة ثقافة (في الذكرى العشرين لوفاته) ـــ 1 ـــ

د. أحمد أبو حاقَّة د. أحمد أبو حاقَّة
حجم الخط
تَمَتَّعَ اسمُ «أحمد أبو حاقَّة»، بِحُضورٍ زاهٍ في مَداركي، منذُ منتصفِ ستِّيناتِ القرنِ العشرين. كُنتُ، وَقْتَئِذٍ، تلميذاً في المرحلةِ الدِّراسيَّةِ الثَّانويَّةِ، وكانَ الأستاذُ «أبو حاقَّة» أَحَدَ مُؤلِّفي سِلْسِلَةِ الكِتابِ المدرسيِّ الأشهر لِمُقرَّراتِ الأدبِ العربيِّ في المرحلةِ الثَّانويَّةِ في لبنان، «المُفيدُ في الأدبِ العربي»؛ ومعهُ الأساتذةُ «إيليَّا حاوي»، و«جوزِف الهاشِم» و«جوزيف إلياس». واقعُ الحالِ، كانَ ذلكَ زَمَنُ إزدهارِ النَّجاحِ السَّاطِعِ للتَّعليمِ الرَّسميِّ في لبنان؛ وكانت المؤسَّساتُ التَّعليميَّةُ تتنافسُ، فيما بَينها، عَبْرَ سَعي تلاميذِها للتَّفوُّقِ في تحصيلِ مُعدَّلِ العلاماتِ الأعلى، مِن نتائجِ الامتحاناتِ الرَّسميَّةِ؛ كما كانتِ المُنافسهُ الطَّيِّبةُ، عَهْدَئِذٍ، على أشُدِّها بينَ المدرسةِ الرَّسميَّة النَّاهضةِ حديثاً، وبعضِ المدارسِ الخاصَّةِ، ذاتِ التَّاريخِ التَّعليميِّ العريق.

كُنْتُ، في تلكَ المحطَّةِ مِن سِنيِّ عُمري، أحدَ تلاميذِ «ثانويَّةِ رَمْلِ الظَّريفِ الرَّسميَّةِ»؛ وكانت أجواءُ التَّعليمِ، في مُحيطِنا التَّربويِّ وخارِجِهِ، تَضُجُّ مَزْهُوَّةً بِثلاثةِ أسماءٍ لأَساتِذَةٍ أَمْسَكوا بِكَثيرٍ مِنْ مُقدِّراتِ ثلاثةٍ مِن فروعِ المعرِفَةِ التَّعليميَّةِ، في مجالاتِ «شهادةِ التَّعليمِ الثَّانويِّ» الرَّسمِيَّةِ، (البكالوريا)، هُم الأُستاذ «سامي أَدْهَم»، في مجالِ مادَّةِ الرِّياضيَّاتِ، والأُستاذُ «سَميح هَزِيمَة»، في اختصاصِ العُلومِ، وتحديداً الفِيزْياء، والأُستاذ «أحمد أبو حاقَّة»، في اختصاصِ الأَدبِ العربي؛ ولَمْ أَكُن قد عرفتُ أيَّاً مِنْ هؤلاءِ الأساتِذَةِ مَعرفةً شخصِيَّةً على الإطلاق، إذْ كلُّ ما كنتُ أعرفه منهم، كانَ من خلالِ الكُتبِ المدرسيَّةِ أو الأَمالي (الكُورات) التي كانت مُنْتَشِرَةً، عهدئذٍ، ناراً في هَشيمِ ما كُنَّا نَرُومُهُ في دراسةِ مُقرَّراتِ الامتحاناتِ الرَّسميَّةِ للشَّهادةِ التَّعليمِ الثَّانويِّ الرَّسميَّةِ (البكالوريا).

أوَّل مرَّةٍ التقيتُ فيها، بصورةٍ مباشرةٍ، مع الأستاذ «أحمد أبو حاقَّة»، كانت قبل سَنَتَيْنِ من انتهاءِ عقد الستِّينات من القرن الماضي؛ يومَ تقدَّمتُ إلى مباراياتِ الدُّخولِ للإلتحاقِ بـ «كليَّة التَّربيَّة» في «الجامعة اللُّبنانيَّة». كانَ الأستاذ «أبو حاقَّة»، في ذلك الحِين، رئيساً لِقِسْمِ اللُّغةِ العربيَّةِ وآدابِها في «الكليَّة»؛ وكان يجولُ بينَ الطَّلبةِ المتقدِّمين إلى المباراة، مُرَاقِباً سَيْرَ الأَعْمَالِ العامَّة. رأيتُ في الأستاذ «أبو حاقَّة»، يومها، رجلاً شديدَ الهدوءِ، أسمر البَشرةِ، طويلَ القامة مُهابَ السَّمتِ؛ يقتربُ مِن حيث كنتُ أضعُ إجاباتي على أسئلةِ المباراة، رانِياً إليَّ بنظرةِ تشجيعٍ، لعلَّه طالما اعتادَ أنْ يُلقيها على الطلاَّب الذين يمرُّ بهم. ما كانَ منِّي، أمام نظرتِهِ هذه، إلاَّ أنْ أُحَيِّيهِ قائلاً، بصوتِ خافتٍ، وأخيراً التقيتُ بِشَخْصِكَ، بعد أنْ تعلَّمتُ مِن كتابِكَ في سنواتِ المرحلةِ الثَّانويَّة. وكانَ كلُّ ما بدرَ مِن الأستاذِ «أبو حاقة» تجاهي، أنَّه رَبَتَ على كَتفي مبتسماً وتابع، مِن ثَمَّ، مَسِيره بين الطلاَّب المتقدِّمين إلى المباراة.

كنتُ أتَجَمَّعُ مع زملائي المتقدِّمين إلى تلك المباراة، في باحة كليَّة التَّربية، ننتظرُ صدورَ نتائجَ ما تقدَّمنا به. كانَ كثيرٌ مِنَ القلقِ يُحيطُ بكلِّ منَّا؛ فالنجَّاحُ في مبارايات الدُّخول إلى هذه «الكليَّة»، تحديداً، لم يكن يعني، آنذاكَ، مُجرَّدَ الانتقال إلى مرحلة الدِّراسة الجامعيَّة؛ بل كان، فضلاً عن هذا، يعني الحصول على منحةٍ ماليَّةٍ شهريَّةٍ، تمتدُّ طيلةَ سنواتِ الدِّراسةِ الرَّسميَّةِ، مع إلتزامٍ مِن إدارةِ «وزارة التَّربية» بِتَعيين النَّاجحينَ أساتذةً في مجالاتِ اختصاصاتِهم ضمن مديريَّة التَّعليم الثَّانوي فيها؛ أي، وبكلِّ وضوحٍ، إنَّ مَن يفوزُ في هذه المبارات، يكونُ قد بدأ خطوته الأساس في تأمين دراسته ومعيشته ومستقبله. كنتُ اتخبَّطُ في ألفِ موجةٍ صاخبةٍ تعتري كياني، وأنا أنظرُ إلى الأستاذ «أبو حاقَّة»، وهو يُشْرِفُ على اثنين مِنَ المُوَظَّفين، فيما كانا يَنْشُران نتائجَ المباراةِ، ضمنَ الإطاراتِ المُخصَّصةِ لهذا الشَّانِ في «الكليَّة». لا أدري، حقَّاً، ما رآهُ الأستاذُ «أبو حاقَّة»، لحظتذاك، مِن الملامِحِ المُتجمِّعةِ في كَياني، اضطِراباً وارتِياعاً ورَجاءً؛ ويبدو أنَّ ما رآهُ كانَ مثيراً جدَّاً لانتباهِهِ، إذْ اقتربَ منِّي، بهدوءٍ شديدٍ، ورَبَتَ بِلُطْفٍ على كَتِفي، تماماً كما فعلَ يَوْمَ مَرَّ بي أثناءَ تقديمي المباراة، لكنَّهُ لم يَكْتَفِ هذهِ المرَّة بمجرَّد الابتسام، بَلْ هَمَسَ في أُذُني، «إهْدأْ، فلَنْ يَضِيعَ وقتُكَ في الدَّرسِ سُدى». هكذا بدأتْ معرفتي المباشرة بالأستاذ «أحمد أبو حاقَّة»؛ وهي معرفةٌ مرَّت بسنواتٍ خمسٍ من التَّلمذة عليهِ، حصَّلت فيها شَهادَتَيْ «الإجازة» (اللِّيسانس) في اللُّغة العربيَّة وآدابها وأصول تدريسها، وشهادة «الكفاءة» في اللُّغة العربيَّة وآدابها، التي جرت معادلتها بشهادة «الماجستير» في الاختصاص.

الأستاذ الدكتور «أحمد أبو حاقَّة»، مجموعةٌ متكاملةٌ من دماثة الخُلُقِ، تتفاعلُ مع قِيَمٍ نابضةٍ بالعطاءِ من عناصرِ المعرفةِ وطموحاتِ التَّربيةِ المتطلِّعة جميعها إلى بناء أجيالٍ مِن روَّاد الثَّقافةِ ووعي مسؤوليَّة العيشِ في الوطنِ وخدمته. هكذا عرفتُ الدكتور «أحمد أبو حاقَّة»، طيلة علاقتي بهِ، التي أمتدَّت من لحظة إعلانه نتائج مباريات الدُّخولِ إلى «كليَّةِ التَّربيةِ» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»، سنة 1976، إلى أن توفاه الله إلى رحمته ورضوانه يوم الاثنين 18 نيسان (إبريل) 2011.

رحلةُ عُمْرٍ رائعةٍ أمضيتها برفقةِ هذا المعلِّم، وقد درستُ وزملائي عليهِ، كثيراً مِمَّا نعرفهُ من تاريخ الأدبِ العربيِّ وأعلامِه، «القديم» من موضوعاته، و«المُوَلَّدُ» و«المُحْدَثُ»، وفاقاً لمصطلحات درس التَّاريخ الأدبيِّ. ومعه كانت لنا جولات عديدة لا تُنسى، في عالم نجيب محفوظ، وتحديداً، في ثلاثيته الذائعة الصِّيت «بين القصرين» و«قصر الشُّوق» و«السكَّريَّة»؛ وكم كانت لنا نشوة سماع الدكتور «أحمد» وهو يحكي عن شخصيَّة «أحمد عبد الجواد» في ثلاثيَّة محفوظ، ويسعى إلى تحليلٍ لها وقراءةٍ في بعضِ جوانبها.

(يتبع حلقة ثانية)

----------------

* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي