في زمنٍ تتناسل فيه الأصنام من رحم الطوائف، ويُغلق فيه الكتاب باسم القداسة، تصرخ الذاكرة بقصصٍ دفنتها الحرب وخنقتها الأيديولوجيا، لكنها ما زالت تقاوم تحت الرماد. هذه الحكاية ليست مجرّد تأمّل في طقوس نائية، بل مرآةٌ لما نعيشه اليوم في مجتمعاتٍ تُحاصر العقول وتكفّر أصحاب الفكر، وتخاف من صوت الحكمة إذا خرج من الصندوق.
قصة «الصندوق المغلق» تأخذنا من طفولةٍ ريفيّة بريئة إلى قلب المأساة اللبنانيّة، مروراً برحلةٍ إلى أقاصي الصين حيث تشابهت الأصنام واختفى المعنى. إنها دعوةٌ صادقة لإعادة فتح الكتاب لا بعيون الخوف، بل ببصيرة العقل وروح الرسالة...
في قريةٍ نائيةٍ تنام على كتف الجبال وتتنفّس من عيون الطبيعة، عشت طفولتي محاطاً بأحاديث السمر التي تتسلّل في المساء بين طيات النور الخافت، وأحدها كان جاراً غريباً عن المكان، لكنه عميق الأثر في الزمان. جاءنا من بيروت في بدايات الحرب اللبنانيّة، يحمل في ذهنه وهج فكرٍ مستنير، وفي قلبه وهج إيمانٍ متجذّر بالعلم والتجربة ورحلات الإستكشاف، لا بالوراثة والانغلاق.
كان يحكي للكبار على مسامعنا نحن الصغار، عن مغامراته التي عبرت القارات واختلطت بالناس والحضارات. لكن إحدى قصصه ظلّت محفورة في أعماقي، كأنها تشكّلت في روحي ووجداني لا في سمعي.
قال إنه زار يوماً منطقةً نائية في الصين، حيث يعيش ملايين من المسلمين والمسيحيين والبوذيين، أقليات في بلد واسع لكنهم ليسوا قلّة. هناك، شدّه مشهدٌ غريب، طقوس العبادات الثلاث تتشابه بشكلٍ مذهل. كل طائفة تقف أمام «صنم»، تسبّحه وتخضع له.
• البوذيون أمام تمثال بوذا.
• المسيحيون أمام تمثال يسمّونه المسيح!
• والمسلمون... أمام تمثال يسمّونه «محمد»!!
كان الأمر صادماً، لم يكن هذا هو الإسلام الذي يعرفه ويؤمن به. وبحكم أصوله العربيّة التي يقدّسها المسلمون هناك، تمكّن من التقرّب إليهم حتى اكتشف السرّ، إلى جانب ذلك التمثال، كان هناك صندوق خشبي مغلق لا يجرؤ أحد على لمسه، لما فيه من «قدسيّة» كما يعتقدون. وبعد جهدٍ طويل، وافقوا على فتحه. فإذا به... القرآن الكريم!
الدهشة لم تكن فقط في وجود المصحف، بل في الطريقة التي قُبر فيها. لقد أغلقوا عليه زماناً طويلاً، وابتعدوا عن كلماته، معانيه وحكمته، ليكتفوا بما تبقّى لهم، تعصّب أعمى، عبادة الشكل والصنميّة بدل استيعاب واتباع الرسالة!
ومن هنا كانت العبرة، حين تُغلق الرسالة والفكر، يُفتح الباب للأصنام. حين يُستبدل المعنى بالمظهر، تتحوّل الأديان إلى أدواتٍ طائفيّة، يتشابه أتباعها في تعصّبهم وهم يتوهمون الاختلاف.
مرّت السنين. كبرتُ وكبرت ذكرياتي، وسألت يوماً عن ذلك الرجل الذي أشعل فينا نور الفكر الإيماني في طفولتنا. كانت الصدمة أن أبنائه قد أصبحوا أعضاء في جمعية دينيّة متشدّدة، مستوردة الفكر، مُعبّأة برسائل وعبارات مُجتزأة تُفرّغ النصوص من حكمتها، وتحتكر الفهم باسم «الفرقة الناجية» التي تمتلك مفاتيح المعرفة. لقد كفّروا والدهم، وحرّموا أُمَهم عليه، وجرّموه لمجرد استعاراته الأدبية، مصرّحين أنه خرج من الدين!
صار المؤمن المفكر غريباً في بيته، محاصراً بأفكار سطحية مُجتزأة لا تَسمع ولا تُفَكّر، بل تصدر الأحكام. واستُخدم الدين ضده، كما في كثيرٍ من مشاهد تشويهات الحرب التي نلمسها يومياً، لتمزيق العقل لا لتهذيبه. فإما أن تتمرّد على الدين، أو أن تنتمي لجمعيات تعيدك إلى عبادة صنم باسم «القداسة»، أو تتبع ميليشيا تسيطر على حارتك.
وهكذا... عادت القصة القديمة، فالصندوق الذي فيه «القرآن» أي الكتاب والحكمة أُغلق مجدداً وبغشاء آخر، وارتفعت الأصنام من جديد، لكنها الآن تتخذ شكل رجال دين أو زعماء طوائف أو رموز سياسية وفي مواطن العرب... يعبدون لا بمعنى الطاعة بالفكر والعمل الصالح، بل بتقديس الشكل المطلق.
وهنا، تعود بنا الذاكرة إلى قصة نبي الله موسى، حين عاد إلى قومه بعد أربعين يوماً، فوجدهم قد عبدوا العجل الذهبي. إنها القصة المتكرّرة في كل زمان، حين يغيب الوعي الرسالي، يحضر الصنم.
ما نحتاجه اليوم، ليس هدم الأصنام، بل فتح الصندوق. استعادة النص لا بقدسيّته الشكلية بل بحكمته ووعيه ورفع الغشاوات الدخيلة، لنحرّر العقول من وهم تلقيناتهم الموهنة، ونعيد إلى الدين روحه وحكمته الرساليّة وإلى الإنسان إنسانيته.
إن واجبنا من جديد، في هذا الزمن الصعب أن نحارب الجهل فينا قبل أن نحارب الآخرين، أن نعيد للرسالة جوهرها، لا أن نغلقها في صندوق، ونركع لأصنام لم تكن يوماً من لله في شيء.
يا من تقرأ هذه الكلمات، لا تكن حارساً على صنمٍ باسم الدين، ولا تضع الكتاب في صندوق وتغلق عليه بالمفاتيح الحديديّة للوراثة والتقليد المستجد. افتحه، واقرأه كما لو أنك تقرأه لأول مرة. اقرأه بعينٍ ترى بنور الحكمة، لا بعينٍ ترتعد من الكلمة. اقرأه لتتحرّر، لا لتُكفّر.
فالدين لم يُنزَل ليُستعمَل كعصا في يد الطغاة أو جدار في وجه السؤال، بل نزل ليحرّر الإنسان من عبادة الإنسان، ويعيده إلى عبادة رب العالمين الرحمن. وكل من يخشى من أن تُفتح الصناديق ويُخرَج منها النور... هو خائف من النور لا من الظلمة.
فلنفتح الصندوق...