بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 أيلول 2021 12:00ص «الصيفي» من مصيف لبيروت إلى حارسة لتراثها

حجم الخط
زياد سامي عيتاني*

«الصيفي» منطقة بحكم مجاورتها الجغرافي لمرفأ بيروت نالت النصيب الأكبر دماراً وخراباً من جرّاء التداعيات الكارثية-المأساوية للتفجير المزلزل في أحد عنابره، مما حوّلها إلى منطقة منكوبة بكل ما للكلمة من مدلول.
فهذا الحي الذي نشأ أول تكوينه خارج المدينة، سرعان ما إندمج فيها، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من خارطتها ونسيجها، بعدما كوّن نفسه نسق مكمّل للمشهد المديني في العمران والسكن والإقتصاد والمؤسسات الدينية والسياسية والتجارية، وإقامة القناصل، تمكّن من الحفاظ على نمطه، دون التأثّر بالتغييرات المتتالية عبر الأزمان، إلا بقدر من الإفادة من الحداثة، للتمسّك بالتراث...
****
• تسمية «الصيفي»:
كان من عادة أهالي بيروت قديماً يوم كانت محصّنة بسورها وأبوابها، أن يقصدوا في فصل الصيف المناطق المتاخمة لها في «ظاهر» بيروت، أي خارج السور، لا سيما المرتفعة منها أو المجاورة للبحر، وذلك هرباً من حرّها، فكانوا يبنون «العرازيل» للإقامة فيها، علّهم يحصلون على طراوة الجو والهواء العليل المنعش الذي يكسر حرارة شمسها.ومن المناطق البحرية التي كانت مقصد «البيارتة» عين المريسة وشوران والأوزاعي، إضافة إلى الطرف الشرقي من المرفأ، أي مكان جسر شارل حلو حالياً، حيث كانت مياه البحر تصلها، التي كانت تتجه إليها العائلات البيروتية للـ«صيفية»، أي أنها كانت بمثابة مصيفاً لهم، فسمّيت بمحلة «الصيفي»، وبقيت هذه التسمية وأخذ ذاك الحي تسميته الإدارية، منذ وقتها، وما يزال حتى يومنا هذا...
****
•الموقع الجغرافي:
يمتد الحي طولاً من الجهة الشمالية الشرقية لساحة «البرج»، صعوداً حتى ساحة «الدباس»، وينتهي عند كنيسة الأرمن الكاثوليك، وينحرف بشكل زاوية قائمة بإتجاه الأشرفية، وصولاً إلى مبنى وزارة الخارجية، لينحدر نزولاً عبر شارع «سعيد عقل»، ليلتقي بشارع «الجميزة» فشارع «الأرز»، وصولاً إلى بيت «الكتائب» المركزي من الجهة الشمالية لساحة «البرج».
وبعد مرحلة إعادة إعمار وسط بيروت، فإن جزءاً من «الصيفي» الذي يبدأ من جسر «فؤاد شهاب» عند زاوية كنيسة مار إلياس للأرمن الأرثوذكس إلى بيت «الكتائب»، وهو الجزء الذي كان يضم المباني التراثية التي أعيد ترميمها وتأهيلها لتصبح تحفة معمارية غاية في الروعة والجمال، في حين بقي الجزء الآخر الذي يقع على الجهة الشرقية على حاله يغلب عليه الطابع السكني، حيث أن الأضرار التي لحقت به جرّاء الحرب اللبنانية محدودة، وبقي مقطوناً من ساكنيه.
****
• عوامل تحوّلها إلى منطقة سكنية:
يعود السكن إلى محلة «الصيفي» للعام ١٨٤٠، بعد نقل الدولة العثمانية مركز الإيالة إلى بيروت، مما ساهم في تطوّرها وإنتعاشها وإزدهارها، لا سيما مع توسّع مرفأ بيروت وتحوّله إلى الشريان الذي يربط بين المشرق العربي والغرب الأوروبي، خصوصاً مع إرسال الدول الأوروبية قناصلها إلى بيروت، حيث صار يأتيها التجار، الأمر الذي أدّى إلى رواج التجارة فيها، وإتساع مبانيها، فاختارت طبقة من أعيانها بيوتاً لها في تلك الرقعة الجغرافية بنتها لنفسها لتتميّز عن بقية السكان، فكانت منطقة «الصيفي»...
كذلك فإن فتنة الجبل سنة ١٨٦٠ أدّت إلى إنتقال الآلاف من الموارنة إلى بيروت، وقطن عدد كثير منهم في هذا الحي، إضافة إلى أحياء في الرميل والأشرفية ومار متر.ومن العوامل الإضافية التي ساهمت في تكوين وتنمية «الصيفي» هو إنشاء العديد من المدارس مثل «الحكمة» و«الآباء اليسوعيين» ومستشفى «الراهبات اللعازارية»، فضلاً عن فتح دكاكين ومحلات حرفية كالحدادة الإفرنجية والخياطة والحياكة والصناعات الصغيرة.
هذه العوامل مجتمعة أدّت إلى أن يصبح حي «الصيفي» مقصداً للإقامة والسكن والعمل في آن معاً، حيث إنقسم طبقياً خلال حقبة تموينه إلى جزء شعبي من قبل الذين جاءوه طلباً للأمان والعمل، وجزء حاضن للطبقة الرأسمالية الجديدة التي كانت تسعى إلى مكانة إجتماعية لها ورفاهة ومفاخرة.
والملفت أن أغلب العائلات التي سكنت المنطقة كانت تتعاطى الشأن العام إما مباشرة من خلال العمل السياسي، أو بشكل غير مباشر من خلال المهن التي مارستها كالمحاماة والطب والصحافة والتجارة العامة.
وهذا ما يفسر وفرة مقرات الجمعيات والأحزاب والنوادي على اختلافها في المحلة، ومن خلال موقعها السياسي والوظيفي وفي ملاكات الدولة وبسبب تسلّمها مراكز حسّاسة سياسية وإدارية ومالية وتجارية، إلخ...
****
• إمتداد إقتصادي للمرفأ:
«الصيفي» التي اعتبرت إمتداداً سكنياً لساحة «البرج» منذ عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أخذت تبلور لنفسها في الخمسينات والستينات نمط حياة إقتصادية محورها مرفأ بيروت الواقع إلى جهتها الشمالية الغربية.فمجاورة منطقة «الصيفي» للمرفأ ولوسط بيروت التجاري جعلت عائلاتها تستثمر إقتصادياً بما يلائم موقع المنطقة. إذ أفتتحت في المنطقة منذ الخمسينات الكثير من المؤسسات الإقتصادية، التي ما زال العديد منها قائماً حتى يومنا هذا، كمحلات بيع المفروشات والأجهزة الكهربائية والميكانيكية والأدوات الصحية والصاغة والمجوهرات والأرتيزانا ومكاتب وكالات التأمين وشركات الشحن والتخليص، إضافة إلى عدد من المحلات الحرفية المتخصصة بالخشب والموبيليا.
وقد أدّى قُرب المنطقة من المرفأ، مكان وصول السيارات المستوردة إلى إفتتاح الكثير من وكالات ومكاتب لها هناك.
****
• رسوخ سكاني:
من أهم الأسباب التي ساهمت بشكل أساسي في أن تحافظ «الصيفي» على معالمها التقليدية وثباتها العمراني التي قامت منذ أوائل القرن الماضي، هو إصرار عائلاته على البقاء والإقامة فيه، مما جعله مكان تركّز، لا مكان عبور، رغم أنه مجاورته لساحات الحرب المدمّرة، حالهم حال أي «حي» لسكن العائلات الذي لم تتغيّر كتلته المعمارية، بالرغم من دخول الحداثة العمرانية منذ الخمسينات والستينات مع نمط الأبنية الجديدة التي دمجت بين وحدات السكن التقليدية والمباني الحديثة والمراكز التجارية المتوسطة والكبيرة، التي كان من أبرزها مجمع «بيبلوس» وبناية «الزغبي» والمبنى الزجاجي الآخر الذي يقابلها، إضافة إلى البناية ذات التصميم الإسمنتي...
****
• طراز معماري شرقي-أوروبي:
فأبنية «الصيفي» تتميّز بطابعها الشرقي الممزوج بالإيطالي والأوروبي في عصر النهضة، من حيث التزيين الخارجي، وبالبيت اللبناني-المتوسطي من حيث كمية النور والقناطر، أما التقسيم الداخلي فيأخذ الطابع الشرقي-الإسلامي بحيث أن المنازل مفتوحة على الداخل وليس على الخارج.كذلك فإن العديد من أصحاب المنازل حرصوا على الإحتفاظ بأثاثه القديم الفخم ذات الطراز الكلاسيكي، خصوصاً الفرنسي منه، لا سيما اللوحات المرسومة بريشة رسامين عالميين.
ففي «الصيفي» أبنية رفيعة الطراز، تؤلف وجاهته، وهي عبارة عن مربعات ترتفع إلى طبقات ثلاث كحد أقصى، مزيّنة بالخارج بشرفة صغيرة تقع خلفها واجهة تزيّنها قناطر ثلاث، إلى جوانبها نافذتان تأخذان شكلاً عامودياً ولا تتعدّى في أفقيتها متراً واحداً.أما الواجهات الخارجية للأبنية فتأخذ أشكال رسوم نباتية، وتحت العديد منها كانت تقوم حوانيت مملوكة من ساكني البناء. وحول المسكن يمتد «رواق» في إحدى جهاته...
****
•التصميم الداخلي:
أما في الداخل فتوجد قاعة تشغل طول البناء تسمى «الدار»، وحولها تتوزع غرف تفتح أبوابها عليها من كل الجهات بإستثناء الشمالية منها التي تشرف على البحر من واجهة ذات ثلاثة حنايا تسندها أعمدة من رخام وتسدّها مغالق من زجاج، وتقابل الواجهة من جهة الجنوب غرفتان متوازنتان أو أكثر ويكون المطبخ في الجهة الشرقية ويتم الوصول إليه من معبر صغير يفصله عن «الدار».
وتتكاثر في الطبقة الواحدة الأبواب والشبابيك لتأخذ نصيبها الوافر من النور. وفي بعض الأبنية فتحات صغيرة في شكل دائرة في أعلى الحيط المطلّ على الخارج، ولهذه الفتحات دور مهم في تهوئة الغرف، حيث كانت بمثابة مكيف طبيعي للهواء. والنوافذ الموجودة في الغرف تفتح من جهة الميمنة والميسرة على الأبنية المحاذية لها، بحيث يمكن رؤية البيت الأخير من البيت الأول الذي يمتد على طول الشارع. أما النوافذ العلوية وكذلك القناطر، فإنها مزيّنة بألوان من الزجاج، بحيث تعطي النور وتحجب الرؤية في الوقت عينه...
*****
ميزة حي «الصيفي» أنه بقي محافظاً على طابعه وطرازه العمراني، بعد إعادة ترميمه، فتحوّل قرية تراثية وسط مدينة متجددة، لم يشهد تبدّلاً بنيوياً في كتلته المعمارية، بل بقي متمسّكاً بالصورة التي كانت له، حيث تمّت المحافظة على بيوت الربع الأول من القرن الماضي، التي تشكّل جزءاً هاماً من البنية المعمارية للـ«صيفي» كتأكيد على رسوخ هويته التراثية...

* إعلامي وباحث في التراث الشعبي