بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 شباط 2025 12:00ص الفنان هينوك ميلكامزر والفن الطلسمي برمزيته الروحانية

حجم الخط
تتمحور أعمال الفنان هينوك ميلكامزر «Hinok Mikelamzer» حول الرموز والأنماط الميتافيزيقية، متجاوزة بذلك حدود الزخرفة لتصبح لغة روحية وأبجدية فنية تتناغم مع الكون. وعندما نتحدث عن «الطلسم» في الفن التشكيلي، فإننا نواجه تجربة فنية مشبعة بالرمزية، حيث تلتقي الصورة بالكلمة، ويتشابك الشكل بالروح، لتولد فسيفساء من الأبعاد الخفية التي تتغلغل في أعماق العقل البشري. فهل يمكن اعتبار الفن الطلسمي فن الغموض في عالم الأبعاد المختلفة؟
في أعمال هينوك ميلكامزر الطلسمية، نجد أنفسنا أمام معادلة فنية تمتزج فيها الأساطير مع الفلسفة، والدين مع العلوم الروحية. فلا يقتصر الفنان الطلسمي على نقل العالم الظاهر، بل يغوص في ما هو غير منظور، ويستكشف أعماق الوعي ليعيد تشكيل الواقع وفق معايير روحانية متميزة. الكلمات الرمزية التي تتناثر بين ألوانه وأشكاله تحمل معانٍ غير مرئية، مما يجعل من كل عمل فني قصة باطنية يجب اكتشافها، تماماً كما لو كانت مفاتيح تفتح أبواباً مغلقة في الذات أو في الكون. فهل يمكن اعتبار الطلسمة مفهوماً روحانياً؟ وهل تُعتبر من الفنون الجمالية التي تخلب الألباب؟
على الرغم من أن الفن الطلسمي قد لا يكون مألوفاً للكثيرين، فإنه يحمل في طياته مفهوماً عميقاً يعود إلى الممارسات القديمة التي كانت تربط الإنسان بالطبيعة والأجرام السماوية. ومن هنا، يختلف الفن الطلسمي عن الفن التشكيلي التقليدي، حيث يتحوّل إلى نوع من التعبير الرمزي الذي يجسّد، عبر شكله ولونه، العلاقة الكونية بين الإنسان والمطلق، وبين الأرض والسماء. إنه فن يتجاوز المظاهر ليقترب من جوهر الأشياء. وتعتمد لوحات ميلكامزر الطلسمية على تقنيات تشكيلية دقيقة، حيث يبدأ من المركز لتوسيع دائرة الرموز تدريجياً نحو الأطراف. هذا التدرّج في الحركة البصرية يرمز إلى رحلة الروح من النقطة المركزية المبدئية نحو الفهم الأوسع للوجود. قد تبدأ هذه الرحلة في نقطة صغيرة مرسومة بكلمات أو رموز ترتبط بمفاهيم روحية، لكن مع مرور الوقت، تتسع لتشكل شبكة من الرموز المتشابكة التي تكبر كلما اقتربت المسافة من الأطراف. يعكس التباين بين المركز والأطراف رحلة اكتشاف الذات، وكأن هينوك يعكس الوجود ذاته في صورة مشهد كوني متواصل.
رغم أن الفن الطلسمي يبدو في الظاهر بعيداً عن القضايا الاجتماعية والسياسية، إلّا أنه في الواقع ليس معزولاً عن السياق الذي نشأ فيه. ففي إثيوبيا، على سبيل المثال، التي تُعدّ واحدة من أبرز البلدان التي تحتفظ بهذه التقاليد الطلسمية، تأثّر هذا الفن بشكل مباشر بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للبلاد. ففي فترات الاستعمار والصراعات، كان الفن الطلسمي أداة للتمسّك بالهوية الوطنية والروحية، كما كان وسيلة لاستكشاف العالم المجهول عبر الرموز التي لا تتحدث فقط عن الآلهة، بل عن معاناة الإنسان وتطلّعاته نحو الخلاص. يظهر الفن الطلسمي في إثيوبيا ارتباطاً وثيقاً بين الدين والروحانية، والعالم المادي والعالم الغيبي. وقد استلهم هذا الفن من التصورات الفلكية القديمة، حيث كانت الأجرام السماوية تمثل مفاتيح لفهم مصير الإنسان، ولم تكن مجرد أجسام فلكية، بل كانت مرتبطة بتوجيهات روحانية وقوى كونية تؤثر في مسار الحياة. فهل يُعدّ التحديث في الفن الطلسمي ناتجاً عن تعارض بين الحداثة والموروث؟
في عالم معاصر يعجُّ بالكوارث البيئية والحروب والفقر، برز الفن الطلسمي ليكون أحد وسائل التعبير التي تقدم بديلاً غير تقليدي للتقريب بين الإنسان والطبيعة. إذ يعيد الفنان الطلسمي الحديث استكشاف هذه الرموز القديمة ويمنحها بُعداً معاصراً يعكس التحديات التي يواجهها العالم اليوم. إن الرموز الطلسمية، التي كانت في الأصل تعبيراً عن التوازن الروحي، يمكن أن تتحوّل اليوم إلى دعوة للتأمّل في الصراعات البيئية وحروب العصر، في محاولة للتصالح مع الذات والتفكير في حلول جديدة لمشاكلنا الجماعية.
الفن الطلسمي ليس مجرد وسيلة فنية للتعبير عن المعتقدات الروحية أو الأساطير القديمة، بل هو بمثابة رحلة داخلية عميقة في عالم من الرموز والمعاني المخفية. عبر هذا الفن، استطاع ميلكامزر أن يعكس صراع الإنسان مع نفسه ومع محيطه. ومع تحوّلات العالم المعاصر، يظل الفن الطلسمي بوابة عبور إلى تجارب فنية وروحية جديدة تعيد ربط الإنسان بالكون، من خلال رموز وألوان تحمل في طياتها أسراراً لا تكشفها سوى أرواح الباحثين. في النهاية، يظهر الفن الطلسمي كأداة تعبيرية غنية ذات أبعاد روحية وفكرية، ترتبط بعمق في هويات ومعتقدات الشعوب وتحديات العصر الحالي، وتعتبر بوابة لفهم الذات والعالم المحيط من خلال الرمزية التي يتقاطع فيها الماضي والحاضر.