بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 آذار 2025 12:00ص تراث رمضان: «رمضانيات» أحمد قعبور تستحضر أجواء بيروت زمان بعدما منحتها هوية فنية مكتملة العناصر الجمالية

حجم الخط
 «علّوا البيارق علّوها وغنّوا للعيد، ضوّوا الشوارع، خلّوها تغني من جديد»... أغنية للفنان المرهف والمبدع أحمد قعبور، تستعيد كل عام مع بداية شهر رمضان المبارك، تلك الأجواء الرمضانية في أرجاء بيروت، يوم كانت تكتسي الحلة الرمضانية، بطقوسها وعاداتها وتقاليدها، والتي كان ينتظرها كل البيروتيين من مختلف الفئات المجتمعية، ليعيشوا معاً بكل بهجتها وتجلياتها، والتي ولت إلى غير رجعة، أمام الهجمة «المفترسة» للحداثة والعصرنة. أغنية غنّاها أحمد قعبور، بإحساس وفرح، لدرجة أن الناس لا تشعر برمضان إلا بسماعها، تمكنت من أن تنتصر برواجها وجماهيريتها على الزمن و»وحشيته». فرغم إنقضاء حوالي أربعين عاماً على إنتاجها، فإنها تستحضر كل سنة، لتستيقظ ذاكرة البيروتيين وحنينهم، لما تختزنه في وجدان البيروتيين من ذكريات ودلائل تحاكي رمضانهم، فتفعل فعلها السحري العفوي في تحريك وتأجيج مشاعرهم بحنين لذلك الزمن الذي مضى، حتى أضحت الأغنية بمثابة «النشيد» الرسمي لرمضان بالنسبة لهم. فمدينة بيروت كانت تنتظر قدوم شهر رمضان المبارك بكثير من الشوق والحنين، ليحل عليها ضيفاً عزيزاً، ويُدخل البهجة والسكينة إلى قلوب أبنائها، فتمتزج فيه الروحانيات والنورانيات، مع عبق وقبس العادات والتقاليد الرمضانية الإجتماعية والتراثية. صحيح أن تلك الأجواء غادرت بيروت، إلا أنها لم تغادر الذاكرة الذهبية للفنان أحمد قعبور، إبن مدينته، الذي شغف بها، وعاش بأحاسيسه وجوارحه زواريبها وأزقتها وناسها البسطاء الطيبين، حتى تحوّلت إلى مخزون في داخله، ينهل منه ليبدع في توثيق وتأريخ تلك الحقبة تأليفاً وتلحيناً وغناءً، بكلمات من مفردات الثقافة الشعبية، وألحان مشبعة بشجن الحنين، وصوت يصدر من القلب قبل الحنجرة. لا شك أن أجواء رمضان وطقوسه كانت جزءاً من هذا المخزون عند أحمد، الذي نفض عنه غبار الزمن وأعاد إحيائه من خلال نتاجه الفني المرتبط بالناس، ليصبح لبيروت هوية غنائية رمضانية على غرار الأغنيات الرمضانية التي تملأ الفضاء الفني في مصر...

****

أحمد قعبور من خلال أغانيه الرمضانية، عبّر عن علاقته برمضان «كقيمة للمحبة والتلاقي والتسامح بوجه التعصّب والتزمّت». هذه العلاقة، هي أشبه بحبة قمح زرعتها ذكريات طفولته في الطريق الجديدة في داخله، لتنمو سنبلة مع ما أحاط به من استلهامات أثرت وكونت شخصيته الفنية بما تحمل من عناصر جمالية قريبة من الناس. استلهامات أحمد الفنية، بدأت من بيت أبيه عازف الكمان الشهير محمود الرشيدي، الذي رافق كبار المطربين العرب واللبنانيين (عزفاً)، التي اقترنت الموسيقى عنده، بين آذان الفجر و«كحّة» والده (آخر أيامه) المزمنة وحوافر الخيل الخارجة من الاسطبل المجاور لمنزله، لتكتمل تلك الاستلهامات مع زوج عمته المؤلف والأديب والممثل محمد شامل، الذي كان يعكس من خلال أعماله الإذاعية والتلفزيونية نمط الحياة البيروتية بكل تفاعلاتها الإجتماعية بقالب أدبي يجمع ما بين الرقي والبساطة والإستمتاع، لتتأثر استلهاماته لاحقاً بصديق والده عمر الزعني (السابق لزمانه) «بمونولوجيساته» الإنتقادية - الساخرة التي كانت تحاكي الواقع السياسي والإجتماعي بأسلوبه اللاذع، وهو الذي وصف بيروت «بزهرة في غير أوانها»، حتى إستكملت تلك الاستلهامات بالشخصية التعبيرية الخارقة للفنان «المتمرد» بلطف حسن علاء الدين «شوشو» وصرخته «آخ يا بلدنا»... كل هذه الاستلهامات والتفاعلات، ساهمت في تكوين إتجاهات أحمد قعبور الفنية، حتى أنشأ لنفسه هوية خاصة به لا تشبه أحداً سواه، تعبّر عن الحياة البيروتية بكل تفاصيلها ويومياتها التي عاشها وشهدها وكتب فيها وغنّاها بفرح وحزن وغضب، ولكن دائماً بحب، كمؤشر على أنه إبن بيئته، وكان لا بد أن تستحوذ رمضانيات بيروت حيزاً كبيراً من نتاجه الفني، خصوصاً وأن موسيقى رمضان بالنسبة له، بدأت مع صوت «الشوك والملاعق والسكاكين» على مائدة الإفطار، وكذلك زحمة الشوارع والمحلات، ونداءات الباعة المتجولين، إضافة الى ما كان يحمله صوت والدته من نغم الذي كان يدغدغ نوم الطفل إبن الثامنة، وهي تصحي أفراد العائلة لتناول وجبة السحور، فيستمتع لصوت «المسحراتي» وضربات طبلته. كان لرمضان حصة كبيرة من نتاجه الفني، عندما قرر أن ينوع في أغاني رمضان التي كانت مقتصرة على الإبتهالات والتواشيح الدينية، ليعطيها طابعاً فنياً ليزيد من بهجة رمضان... إختار أحمد قعبور حصار بيروت عام 1982 من قبل العدو الإسرائيلي، بكل ما عانته وقتها من معاناة كارثية ومأساوية، ليطلق أولى أغنياته الرمضانية «بيروت يا بيروت»، فلم يكن التوقيت وحده لافتاً، بل الأغنية بذاتها بما تحمله من فرح في وقت تدمر به العاصمة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ، مما أثار السؤال عند عارفي أحمد «من أين جاء بكل هذا الفرح في أغنيته؟ وهو المعروف بأنه مسكون بحزن كبير، بحكم إرتباطه وتفاعله مع كل القضايا الوطنية والإنسانية! كأنه يومها تمرد على حزنه، وخرق الحصار، ليغني بفرح لبيروت الجريحة وللصائمين الذين تحدوا فقدان المواد الغذائية، ليؤكد للعالم الذي يشاهد بيروت وهي تدمر دون أن يرف له أي جفن إنساني أو أخلاقي، بأنها ستبقى مدينة للحياة، وستنهض من تحت الأنقاض لتعود وتفرح مجدداً... من وقتها توالت أغنيات قعبور، التي طبعت هوية فنية رمضانية خاصة ببيروت، بأشخاصها وأمكنتها وأجوائها وكل تفاصيلها. ومن أبرز تلك الأغنيات: «علوا البيارق»، (التي أصبحت نشيد رمضان كل عام)، و«توتة توتة»، و«صلوا عالنبي»، و«نيالك بهلالك»، و«القلب وما يريد»، و«أحو أحو، صندوق الفرجة افتحوا»، و«خلينا مع بعض»، و»تنين تنين»... لكن تبقى أغنية «علوا البيارق» التي كتب كلماتها ولحنها ونفذها الفنان قعبور سنة 1985، وغناها أطفال دار الأيتام الإسلامية في بيروت، فكانت أنشودة من الحب والشوق والفرح والجمال، الأغنية الرمضانية «القعبورية» الأكثر تجذّراً ورسوخاً، حتى يمكن القول أنها الأغنية اللبنانية التي توازي بأهميتها أغنية «رمضان جانا» في مصر للفنان محمد عبد المطلب. كيف لا؟ وهي الأغنية التي غناها قعبور في وقت كانت بيروت رمادية اللون بالنهار، أسيرة العتمة بالليل، بفعل الحرب المدمرة، فجاءت الأغنية مفعمة بالألوان والأنوار، لتكون بداية النور الذي شق عتمة ليل بيروت الطويل، حتى تحوّلت «سمفونية» من البساطة، تصدح بأصوات الحناجر البريئة من أطفال دار الأيتام الإسلامية، شديدة التعبير والإضاءة على التفاصيل المنسية من العادات والتقاليد الإجتماعية المرتبطة بالشهر الفضيل.

****

تمكن أحمد قعبور من خلال أغانيه وأعماله الرمضانية، أن يبقي «رمضان زمان» في ذاكرة البيروتيين، الذين يستحضرونه كل عام، عندما يستمعون إليها بشغف وتأثر ولوعة، سيما وأنها تختزن رمضانيات بيروت التي ولت إلى غير رجعة، عندما كانت بيروت تغني للعيد. فهل أبلغ من وصف لرمضان بيروت من كلمات إحدى أغنيات أحمد قعبور، نختم بها «رمضان بستان نحن زهوره رمضان يا محلا نوروه.. بيروت لي قلبها رغيف بطعمي وما بتسأل كيف.. معقول حدا فيها يجوع وما تغرد فيها طيور! ورمضان يا محلا نوروه».
-------------
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي