بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 كانون الثاني 2025 12:00ص لا أبَ للثقافة ولا أُمّ ولا.. عَون؟

حجم الخط
على رغم أن خطاب القسم لرئيس الجمهورية الجديد جوزاف عون، مَرّ على قضايا لبنان، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية كلها تقريباً حتى قيل أنه كثير علينا الأمل بهذا القدْر، فإنّ الشأنين الثقافي والفكري غابا تماماً عن الخطاب إلّا بعض الإشارات العامة إلى الإبداع اللبناني.
طبعاً ليس مطلوباً من فخامة الرئيس الجديد وهو العسكري منذ شبابه، ومن اللحظة الأولى لتسلّمه سلطاته، أن يكون ملمّاً بالتفصيل، بواقع الثقافة والفكر في البلد، ولا أن يعِد فوراً بنهضةٍ لهما من حال التخبّط الذي يعيشه كل قطاع إنتاجي خلّاق، لكنّ أحلام المثقفين والكُتّاب والمفكّرين أكبر وأعمق من الواقع بكثير. وإذا كان من حق جميع اللبنانيين، الآن، أن يُفكّروا في مَن يفكّر بهم ويهتم لشؤونهم وقطاعات أعمالهم، فإن حق المثقفين والمفكّرين أن يأملوا خيراً، وخيراً كثيراً من رئيس جديد.
هي مسألةٌ شُغْلُ الحكومات المقبلة وليست شُغْلَ رئيس الجمهورية، غير أن للرئيس القوي المدعّم بثقة مجلس النواب ومعظم القوى السياسية، رأيه في الأمر، وتوصياته التي تُحترَم في بيانات الحكومات. وما يدعونا إلى هذه الملاحظة هو أن كل، أقول كل الحكومات السابقة التي عايشناها كانت تستفيض في الكلام على الثقافة والفنون وتمتدح لبنان واللبنانيين على إنتاجاتهم الفنية والثقافية والإبداعية، وتتوقف عند هذا الأمر ولا تتجاوزه باعتباره ثانوياً أمام ضغوط الواقع الجارف سلباً في كل المرافق والمؤسّسات.
ليس أهل الثقافة والفكر يا فخامة الرئيس في حاجة إلى الدروع التقديرية التذكارية التي قُدّمَت لهم من الفخامات الرئاسية السابقة، وغالباً في نهاية العهد، كأنها تنفيعة انتخابية وداعية، أو مناسَبة للاستعراض. وما فعلَه الرئيس السابق ميشال عون على هذا النحو، في نهايات عهده بتقديم أوسمة أو دروع، خير دليل على سَلْقِ التكريمات لمن يستحق ولمن لا يستحق من الفنانين وغيرهم، والهدف واحد وهو تلميع صورة الرئاسة لا صورة المبدع. فالمبدع الذي يعمل ليومه كأنه سيموت غداً ويعمل لغده كأنه سيعيش أبداً، لا يكبر ولا يصغر بتكريمات كهذه. وقد رفض بعض المبدعين هذه الرشوة، ولم يوافقوا على تسلّم الدروع والوقوف أمام عدسات التصوير، ولم يهتموا لزعَل من هنا، أو لردّ فعل من هناك. فالفنان يولد بإرادة ربّه فناناً، وبمرسوم شخصي وسماوي يثبت حضوره، أما صاحب الموقع السياسي فالظروف والعلاقات هي التي تصنعهُ!
 ولا يزال أهل الكتاب اللبنانيون يا فخامة الرئيس ينالون جوائز دولية وعربية كبيرة على ما يبدعونه، ولا نرى جائزة محلية تكرّم عطاءاتهم، بل لا يُقابَلون في بلدهم بغير التهنئة على ما فعلوا، فالعين بصيرة واليد قصيرة. ووزارة الثقافة المعنيّة بذلك، تحاول إيجاد مكان ملائم لها في الوسط الثقافي، لكن الإمكانات المادية المخصصة في الموازنة العامة للوزارة شحيحة وبالكاد تكفي رواتب الموظفين، لذلك يطالب الوزير، كل وزير للثقافة برفع موازنات وزارته علّه يستطيع من خلالها التحرك كما ينبغي تجاه المثقفين.
يريد المثقف والمفكر في لبنان أن تتعاطى معه دولته بعين الإكبار، لا لأنه يُجَمّل المشهد الثقافي اللبناني ويدفعه إلى الأمام، بل لأنه يواصل رحلة لبنانيين كبار قبله ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بما قدّموه من جمال فني وحيوية ثقافية وأبعاد فكرية. فهو مربوط بخيوط حريرٍ تواصُلية مع كوكبة المبدعين السابقين، وتكريمُه يبدأ من ظروف عمله وإنتاجه وحياته وصحّته، ويمرّ بتوفير «عالَم» حرية يعيش فيه قائلاً أفكاره مُعبّراً عنها بلا ضوابط قاهرة ولا رقيب يقول له هذا تكتبه وذك لا تكتبه، وينتهي بتأمين مستلزمات الأمان الصحي. والصحة تاج على رؤوس الأصحّاء لا يراه إلّا المرضى.
أعطيك مثلاً يا فخامة الرئيس عن بلدنا وأنت تعرفه لكنّ الكثيرين لا يعرفونه: إنّ الاهتمام الجدّي والمباشَر بسائقي السيارات العمومية مع احترامنا لكفاحهم من أجل لقمة العيش، في لبنان، أوصلهُم إلى أن يكون لهم وجود وتقديمات في مؤسسة الضمان الإجتماعي وهذا حقهم الطبيعي... بينما اتحاد الكتّاب اللبنانيين بقضّه وقضيضه ومثقفيه وكتّابه وشُعرائه وروائييه لا وجود لهم في الضمان إلّا إذا كانوا منتسبين إلى مؤسسة صحافية أو إعلامية أو دار نَشر. الكاتب غير الموظف، غير مشمول بأي رعاية. حتى النقابات الفنية وهي عديدة في البلد ترتبط بشركات تأمين يدفع الفنان فيها اشتراكاته بالدولار، من دون مَن يسعى إلى إشراكهم في الضمان الاجتماعي. لذلك نرى فنانين وكتّاباً غير قادرين على تغطية نفقات طبابتهم، فيذوقون عذاب العوَز والشفقة. ولولا تدخّل بعض النقباء الكرام وتأمين أموال لازمة من المتبرّعين، لهذا المريض أو ذاك، لإدارات بعض المستشفيات لرأينا ما لا يقبله عقل أو منطق من الموت على أبواب المشافي.
السيرة طويلة يا فخامة الرئيس، حول معاناة أهل الثقافة والإبداع في بلد الثقافة والإبداع. ولن يطول كلامي وأنتم ما تزالون تستقبلون المهنئين، لكنْ لا بُد من ذِكر إنقاذكم الجيشَ اللبناني بضباطه وعناصره عندما « قشطت» الليرة اللبنانية التي يتقاضونها، فتدبّرتم أمرهم كاملاً وأمّنتم لهم ما يحتاجونه بمساعدة دولة شقيقة، فنجا جيشنا من قطوع صعب، ونجت تجربتكم في قيادة الجيش من أخطر امتحان.
الكتّاب والشعراء والفنانون والروائيون والمفكرون يسألونكم حلّاً واهتماماً ومحبة.