5 أيلول 2024 12:00ص (هذا قدري) أنور الخليل يروي سيرته الذاتية الثرية في كتاب

حجم الخط
عن دار الفارابي صدر للنائب والوزير السابق أنور الخليل كتاب بعنوان (هذا قدري) يسجل فيه سيرته الذاتية انطلاقاً من ولادته في الأسرة الحانية مع لمحة عن تاريخها ثم تعليمه والظروف الموضوعية التي مرَّ بها وصولاً إلى تجربته السياسية من خلال النيابة والوزارة. كل ذلك بلغة مسهّلة مسبوكة وسيرة مضبوطة التسلسل وإيفاء كل مرحلة حقّها.
كل ما في الكتاب مهم ولكننا وفقاً للواقع السياسي الراهن اخترنا من الفصل الثامن المعنون: (طريق الخلاص) ما ورد فيه تحت عنوان (هكذا نخرج من جهنم)، وهذا نصه.
(يقع الكتاب في 390 صفحة من القطع الوسط).
*****
هكذا نخرج من جهنم

كنت أتمنّى لو أنني أُغْنِي هذا الكتاب بالحديث عن لبنان كما عشته بكل جماله.. عن وطن ارتقى مع البابا يوحنا بولس الثاني إلى مرتبة «الرسالة».. عن وطن كان حلمنا الورديّ في طفولتنا ونضجنا وشبابنا، وجنة أمان ورخاء لأبنائه، ومستقبلا زاهرا للأجيال من بعدنا.
قلبي حزين لما حلّ ببلدي، ولهذا الانهيار الهائل الذي حلّ به، وتاه فيه هنا الحلم الجميل الذي اسمه لبنان، في كابوس أزمة أحرقت حاضر أبنائه، وباتت تهدّد مستقبلهم.
يعتصرني الألم، وأنا واحد ممّن أرادوا لبنان وطناً يحكي جماله بنفسه; دولة يعلو الدستور فيها ولا يُعلى عليه.. دولة قانون.. دولة مواطنة صادقة.. دولة نظيفة.. إدارة منيعة.. مؤسسات كفوءة.. قضاء مشهودٌ له بالنزاهة يحكم باسم الشعب بالعدل وليس باسم السياسيين.. دولة حصْنُ حرية وعدالة ومساواة، وواحة كفاءة وجدارة، لا مكان فيها لمحسوبيّات أو أزلام أو حاشية وأتباع.. دولة استثمار للطاقات، وما أكثرها في بلدنا، دولة الشخص المناسب في المكان المناسب.
كانت ثمة فرصة للبنان لأن يتحلّى بكل تلك الصفات الرفيعة، ولكنها فُوِّتت مع الأسف، وضاعت في أدغال السياسة ودهاليزها المتعرّجة، وها هو لبنان وبحسب تقرير للبنك الدولي، قد غرق نحو واحدة من أسوأ ثلاث أزمات عالمية منذ خمسينيات القرن التاسع عشر.
ما آل إليه وضع بلدنا مؤلم، لا بل مفجع.. ولا يختلف اثنان على أنه دخل في نفق، وأنا أتفق مع كل القائلين بأنه نفق مظلم. لكنني مؤمن بأن العاصفة ستمرّ ولو تأخّر الوقت، وسيعود لبنان لينهض من جديد، شرط أن تتوافر إرادة صادقة لا تستسلم للكارثة، بل تجعلها فرصة لكسر المسار الذي تسبّب بها وفاقمها، وفرصة لانتهاج مقاربات وطنية واقعية وبرامج إصلاحية واقتصادية ومالية تحدث انقلاباً جذرياً في المعادلة الكارثية القائمة.. وقد يأخذ هذا المسار سنوات لتحقيق أهدافه المنشودة.
أنا مؤمن بأنه إن توافرت الإرادة الجادّة والصادقة والصلبة، والعمل المخلص، والموارد البشرية، ورجال صالحون مصلحون قادرون على القيام بدور تاريخي، فكل مستحيل وصعب يصبح سهلاً وميسّراً. لبنان حلّت به المجاعة في فترة الحرب العالمية الأولى، وعبرها. وضربه زلزال مدمّر في العام 1956 وعاد وقام من تحت الأنقاض والركام، وتعرّض لمسلسل طويل من الاعتداءات الإسرائيلية، وصمد وعاد ونهض، وبيروت تاريخياً ضربتها كوارث متتالية، وتهدّمت تسع مرات، وعادت وقامت وصارت أمّ المدن، كل تلك الكوارث هزمتها الإرادة بإعادة البناء.
إن العلاج ما زال ممكناً، والطريق إلى ذلك يمرّ باتّباع خطة متدرّجة لإنقاذه، تقوم على مجموعة أسس أعتبرُها تحصينيّة، ويمكن تطبيقها وإنجازها بشكل ناجح:
- أولاً، الاتّعاظ من الأخطاء القاتلة التي ارتكبت، أهمها:
1- إقراض الدولة بدون حق في قانون النقد والتسليف.
2- توظيف المصارف بـ«اليوروبوند» بدلاً من القطاع الإنتاجي الوطني.
3- المحاصّات والسرقات من المال العام.
4- الحوكمة السيئة وعدم الشفافية في بعض القطاعات، كقطاعي الاتصالات والكهرباء.
- ثانياً، المبادرة السريعة إلى تعيين الهيئات الناظمة في قطاع الاتصالات والطيران المدني والكهرباء، وتعيين مجلس إدارة جديد لمؤسسة كهرباء لبنان، وتجريد وزارة الطاقة من كل شوائب المرحلة الماضية وكل من تسبّب بتلك الشوائب، ورفدها بكل من هو قادر على إدارة هذا القطاع بنزاهة وشفافية بعيدا عن الصفقات والسمسرات والسرقات والإصرار على شلّ قطاع الكهرباء وجعله جرحاً نازفاً لعشرات مليارات الدولارات، وبنسبة هائلة تزيد على 30 في المئة من حجم الدين العام.
- ثالثاً، التوجّه إلى صندوق النقد الدولي، وعقد اتفاقية بينه وبين الدولة اللبنانية، تضعه على خط استعادة ثقة المجتمع الدولي والهيئات المانحة به، دون أن يشكّل ذلك أي مسّ أو انتقاص من سيادة الدولة.
رابعاً، إقرار قانون السلطة القضائية المستقلة.. أعطِني قضاء أُعطِك وطناً; كل الدول التي عانت من حروب وأزمات كبرى، وبقي فيها القضاء قائما ومنزّها، عادت إلى الحياة. أية دولة قضاؤها مسيّس من الصعب عليها أن تتعافي أو تستقطب المستثمرين.
- خامساً، إعادة تفعيل الهيئات الرقابية لتكون عنصراً أساسياً في تطبيق الإصلاحات المطلوبة، وتأكيد محاسبة ومعاقبة الفاسدين والمرتكبين.
- سادساً، إقرار خطة اقتصادية تقوم على تطوير قطاع الخدمات من جهة، وإيجاد حوافز للاستثمار في قطاعات إنتاجية أخرى، ولا سيما في مجالي الزراعة والصناعة; إن النموذج الاقتصادي الحالي لم يعد صالحاً لأسباب ذاتية، وأخرى خارجية تتصل بتطوّر قطاعات الاقتصاد في الدول المجاورة وعلينا تحديث وتطوير نموذجنا الاقتصادي قبل فوات الأوان.
- سابعاً، مقاربة ملفات الإصلاح بشكل تدريجي من الأهمّ إلى المهم، وليس بشكل عشوائي.. وصولاً إلى إصلاح جذري في الإدارة ركيزته الأساس استثمار الطاقات والخبرات والكفاءات الهائلة التي يمتلكها لبنان.
- ثامناً، بناء القطاع المصرفي من جديد عبر إعادة هيكلته.
تاسعاً، رفد الإدارة بالكفاءات وليس بالمحسوبيات والمحاصّات.
إن أكبر جريمة ارتكبت بحق لبنان هي تهجير الأدمغة، وتهجير الشبّان والطاقات التي تشكّل ثروة للبنان.
المؤلم أن نسبة هذه الهجرة زادت عن 77%، ومعظمهم من أصحاب الكفاءات; أطباء غالبيتهم من الاختصاصيين، وممرضون وممرضات, معلمون، أساتذة جامعيون ومهندسون واختصاصيون في مختلف الميادين. كلهم تركوا لبنان، بحيث صرنا أمام ثالث أخطر هجرة للبنان، الأولى في زمن الحرب العالمية الأولى، والثانية خلال فترة الحرب الأهلية، والثالثة التي شهدناها في السنوات الأخيرة.
أعرض هذه الصورة للتركيز على خطورة هجرة هؤلاء الشبّان وهجرة الأدمغة والطاقات والكفاءات، إذ أن ذلك يُعرّض لبنان إلى ما يشبه التصحّر الفكري والعلمي، وإفراغه من المدماك الأساسي الذي سيعيد بناءه وهو عنصر الشبّان.