بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 تشرين الثاني 2022 12:00ص الذهان ..بين الحقائق النفسية والمعلومات الخاطئة!

حجم الخط
يُعرّف مرض الذهان بأنه اضطراب خطير في الشخصية، يظهر في صورة اختلال شديد في القوى العقلية وإدراك الواقع وفي الحياة الإنفعالية، حيث يكون الفرد غير مدرك لذاته ولا واعيا بمرضه ولا يبحث عن الشفاء مما يعوق اتصاله الذاتي والإجتماعي. ويرى سيغموند فرويد أنه الصورة الاشد خطورة في اضطراب سلوك الإنسان حيث تظهر تغيرات في إدراك الواقع والإنفصال عنه. ويعتبر الذهان دفاعا يقوم به الفرد ضد إحباط مُعاش في حياته الواقعية. وتكون عمليّتا «النكوص» و«التثبيت» في مرض الذهان من أشد وأعمق الاعراض مقارنة بالعصاب. 
نشرح في القسم الاول عددا من المصطلحات الاساسية، ثم نتناول في القسم الثاني أبرز أنواع هذا المرض النفسي الخطير.
> أولاً: معنى «التثبيت» و«النكوص» في علم النفس :
التثبيت: بحسب التحليل النفسي، يُثار الطفل حسيًّا بمحفزات محددة خلال كل مرحلة تُشبِع حاجاته التطورية. لكن في حال لم يتم اشباع حاجاته في مرحلة معينة، فقد يعاني الطفل تعلّقًا «تثبيتًا» أو ولعًا مرضيًّا بهذه المرحلة. وتظهر الحاجات غير المُشبعة عبر سلوكيات سلبية في سن البلوغ. مثلاً: في حال إهمال الطفل اثناء مرحلة الرضاعة وعدم إشباعه والاهتمام بتغذيته البيولوجية أو النفسية، أو في حال المبالغة في مرحلة الرضاعة أي عندما تمنحه الام الثدي كل الوقت، واستمرار هذه العادة الى ما بعد السنتين من عمره، يحدث ما نسميه بالتثبيت حول هذه المرحلة وتظهر الاعراض المرضية لاحقا في سلوكيات عدة منها: الادمان بشتى انواعه اضافة الى اضطرابات عدة على مستوى النموين النفسي والانفعالي.
النكوص: وهو ظهور سلوكيات عند الطفل لا تنتمي الى المرحلة العمرية التي يمر بها ولا الى النضوج الفكري الذي من المفترض أن يكون قد وصل إليه. مثلاً: بكاء الراشد (الذهاني) اذا ما اخذ منه أحد شيئا من أغراضه. وقد تظهر سلوكيات مشابهة مثل الرغبة في الرضاعة واللباس مثل الاطفال.
> ثانياً: أنواع مرض الذهان (سنذكرها بشكل وجيز قدر الامكان نظراً لتعددها) . 
١-الفصام: تقصدنا ذكره في البداية لتصحيح وتصويب الفكرة الخاطئة عند الاغلبية من الناس الذين يعتقدون أنّ الفصام هو نفسه الذهان. والحقيقة إنّ الفصام هو واحد من انواع الذهان، تظهر أعراضه من خلال: أوهام، مجموعة هلوسات، كلام غير منظم، تفكك، سلوك غير منظم، فقدان الارادة، وتناقض في التعبير العاطفي .
٢-الاضطراب الذهاني الوجيز (الخفيف): ويكون ناتجا عن تعرض الفرد لصدمة ما او حادث يصعب تقبله، فتكون الإصابة به لفترة محددة، ويتم التعافي خلالها بالتزامن مع تلقي العلاج المناسب.
٣-الذهان العضوي: من المعروف ان الدماغ يتأثر ببعض العمليات الجراحية او الامراض العصبية، فتظهر بعدها اعراض ذهانية تكون نتيجة لمرض جسدي او عصبي وليس نفسيا فقط.
٤-الاضطراب الذهاني المُحْدَث بالمواد: ويكون نتيجة لادمان الفرد على الكحول أو المخدرات أو العقاقير.
٥-ذهان الولادة: يصيب بعض النساء بعد الولادة خصوصا عقب عملية الانجاب الأولى. وسأتوسع في شرحه قليلا في فقرة لاحقة.   
٦-الاضطراب الذهاني التوهّمي: وهو الأخطر حيث تتعدد الاعراض بين توهم وجود اشخاص، وأحداث وقصص من الخيال وتصديقها. ويجري ذلك بحسب أنماط عدة:النمط العشقي- نمط العظمة -نمط الغيرة-النمط الاضطهادي-النمط الجسدي- النمط المختلط.
< النمط العشقي: عندما يكون الفرد في حالة حب مع شخص «وهمي».
< نمط العظمة: وهو اعتقاد الفرد بأنه شخصية بالغة الاهمية لديها قدرات ومواهب خارقة. 
< نمط الغيرة: استمرارية الشك بمصداقية الاخر مع توهم وجود شخص آخر في حياة الشريك. 
< النمط الاضطهادي: يعتقد الفرد بأنه ملاحق وأن ثمة من يخطط لقتله، وغالبا ما يرى نفسه ضحية للاخرين، حتى أنه يبرر أفعاله بأنه كان تحت تأثير دواء او مخدّر وضعه احد ما في مشروبه. 
< النمط الجسدي: وهو الاضطراب في وظائف الاعضاء والاحاسيس. 
< النمط المختلط : فقدان السيطرة الكلية على الاوهام التي ذكرناها أعلاه. 
> ثالثاً: الاسباب الرئيسة للاصابة بمرض الذهان 
١-الوراثة: تلعب الجينات الوراثية دورا كبيرا في انتقال الأمراض الذهانية، فعندما يكون احد افراد الاسرة  يعاني من اضطرابات ذهانية يكون الاستعداد اكبر لدى الابناء للاصابة باخذا المرض .
٢-حدوث تغيرات في كيمياء المخ: اي خلل في مستوى الهرمون العصبي الدوبامين المسؤول عن نقل المعلومات بين الخلايا العصبية في المخ. ويكون ذلك سببا رئيساً للذهان. وقد يكون الخلل نتيجة لامراض أخرى مثل الاورام الخبيثة والألزهايمر وامراض الشيخوخة وايضاً لبعض الحوادث والسكتات الدماغية.
٣-استهلاك مادة المخدرات والادمان على الكحوليات والعقاقير النفسية. 
٤-الصدمات النفسية خصوصاً في مراحل مبكرة من العمر أي في مرحلة الطفولة. والسؤال هنا: هل كل طفل يتعرض لصدمة نفسية سيتحول الى ذهاني لاحقا؟ طبعا لا. لان ذلك يعتمد على عوامل عدة، اولها الاستعداد الوراثي وصدمة الولادة اي كيفية تقبل الطفل للعالم الخارجي فور خروجه من البيئة الرحمية، وحال صحة الام النفسية، وهل اصيبت بذهان الولادة أم لا وكيف كانت سلوكياتها مع هذا الكائن الصغير والى اي مدى كانت مرضية، وايضا مدى تقبلها له. وهنا نركز على الحبل «السري النفسي» اذا ما انقطع مع العضوي ام لا؟  ومدى التعلق بين الام وجنينها ومحاولة ابتلاعه مجددا ليكون داخل جسدها لا خارجه. وايضا نسأل عن «علاقة الجلد» relation du peau بينهما وطبيعة ملمسها له، والبيئة النفسية الذي ينمو فيها.
٥-الصدمة النفسية عند الراشد: خصوصا الخسارة النفسية وايضا اكرر ان ليس كل من يخسر اي شخص عزيز سيصاب بالذهان لان هذا يعود الى طبيعة «المناعة النفسية» فاذا وُجد الاستعداد الوراثي+ مناعة نفسية ضعيفة+ اكتئاب او اي اضطراب نفسي اخر او الادمان + صدمة نفسية حادة= الاصابة بالذهان. ونشدد على أن أي اضطراب نفسي يمكنه ان يتطور الى ذهان بحال وُجدت العوامل المذكورة، وقد يُترك الاضطراب ويُهمَل فيتطور الى ذهان أو يُشخّص باكراً ويُعالَج، فيتراجع الى عُصاب.
> رابعاً: أهم أعراض الذهان 
١-الهلوسات السمعية ،البصرية والحسية: كأن يخبر الفرد اهله مثلا بأنه يسمع اصواتا تتحدث اليه، ويرى اشخاصا في ارجاء المنزل. ومنهم من تكون الهلوسات لديه بأنه تنقّل او زاره احد واجرى له عملية لسرقة معلومات مهمة من رأسه (النمط العظمي).
٢-التوهّم: كما ذكرنا سابقا أن الذهاني يتوهم انه مُلاحق وانه ضحية اللاخرين ويتعرض للخيانة و لمخططات خبيثة هدفها التخلص منه.
٣-الخمول المبالغ به وصعوبة كبيرة في مغادرة السرير والقيام بالمهمات او الاهتمام بالنظافة البدنية و بالشكل الخارجي. 
٤-العزلة واضطراب الاتصال والتواصل مع الاخرين. 
٥-اضطرابات في التفكير والتصرفات غير المنطقية. 
٦-ايذاء النفس والاخر من خلال التعرض لهم بالضرب والشتم والتهديد بالقتل ايضاً واطلاق النار بشكل عشوائي.
٧-تلبد المشاعر والاحاسيس. 
٨-فقدان تعابير الوجه وعدم التفاعل مع اي حدث مهما كان مؤلما. 
٩- سقوط الموانع الأخلاقية كان يخرج عاريا الى الشارع. 
١٠- ظهور عوارض «كاتاتونية» أي تشنجات جسدية وارتجافات وجمود قريب الى الشلل. 
> خامسا: كيف يستطيع الاهل ملاحظة استعداد طفلهم للاصابة بمرض الذهان؟
١-على كل أم وأب فصل الطفل عن غرفتهما منذ الاشهر الاولى من عمره وتخصيص غرفة له بجانب غرفتهما .
٢-في حال اصابة الام باذهان الولادة او الاكتئاب بعد الولادة يجب ان يتدخل اخصائي نفسي فورا مع الاب ليقدم لهم الارشادات اللازمة حول كيفية التعامل مع الطفل. 
٣-تجنب الالتصاق بالطفل طوال الوقت وتعويده على مبدأ الخسارة اي على فكرة ان الام ليست معه دائما وتحويل وجودها الى صورة ذهنية من خلال تواجدها في غرفة اخرى مثلا او في المطبخ او في العمل وانها سوف تعود عما قليل. لان الذهاني هو شخص غير قادر على تحويل وجود الشخص الى صورة ذهنية حينما يفقده لذلك خسارته تسبب له الهلوسات والتوهم.
٤-مراقبة حركات الطفل: نوبات غضبه،حركات جسده،تركيزه،طريقة تكرار الكلمات وقدرته على ذلك ،انفعالاته، تفاعله مع الاخر، حركات غريبة يقوم بها. 
٥-الانتباه للطفل من عمر الخمس سنوات وما فوق اذا كان يفضل العزلة ويرغب في البقاء وحيداً في غرفته. 
٦-الالمام بمرحلة المراهقة وخطورتها وكل اضطراباتها لانها تُعد الفترة الانسب للحظة الانفجار اي وضوح الاصابة بالذهان عند الفرد .
٧-اجراء فحوصات مخبرية وصور شعاعية، رنين مغناطيسي بشكل دوري للطفل الملاحظ عليه كل ما ذكرناه خصوصا اذا كان عامل الوراثة موجودا ايضا.
> سادساً: هل العلاج ممكنًا ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال على قسمين. وفي كلتا الحالتين يتم وصف مضادات للذهان لعلاج الأعراض الجانبية للمرض وليس لعلاج المرض نفسه، وتهدف إلى السيطرة عليها والتقليل من النوبات التي يتسبب بها.
القسم الأول: يشمل الأطفال والافراد اللذين أُصيبوا بالذهان وقد تم تشخيصهم باكراً حيث يشعرون بأعراض الذهان الوجيز. وأيضًا المصابون بذهان الولادة والذهان المحدث بالمواد؛ فهؤلاء علاجهم يكون على عاتق كل من الطبيب النفسي والمعالج النفسي في نفس الوقت لمتابعة ما يلي:
-العلاج الدوائي (بعض الادوية تكون لفترة زمنية محددة و بعضها لمدى الحياة).
-العلاج النفسي السلوكي والمعرفي. 
-الارشاد النفسي للاهل والأزواج. 
أما القسم الثاني فيشمل المصابين بالفصام والذهان التوهمي، ويشكل وجود هؤلاء في المنزل  خطراً كبيراً على انفسهم وعلى الاخرين؛ لذا:
-يُنصَح بتلقي العلاج الدوائي في المصحات النفسية (لفترة محددة أيضا حيث يمكنهم بعد التعافي الخروج والعودة  الى حياتهم الطبيعية). 
-متابعة العلاج النفسي مع المعالجين المتخصصين. 
-بعض الذهانيين بحاجة الى جلسات ECT  وهي العلاج بالصدمات الكهربائية لانها تساعد على تغيير الكيمياء في المخ مما يساعد المريض على التخلص من اعراض الذهان كما تعيد إحياء المستقبلات العصبية في الدماغ، بحال لم تعد تتجاوب مع الادوية. وهي جلسات آمنة جدا، يكون المريض خلالها تحت تأثير التخدير العام.
حاولنا خلال هذه المقالة المساهمة في تعريف الناس بهذا المرض وتوعيتهم وتصحيح أفكارهم المغلوطة حوله اذ يرون فيه «جنونا» او «مسّا شيطانياً». لكن المسؤولية الكبرى في تسليط الضوء عليه تقع على وزارتي الصحة والتربية والتعليم. فالاولى عليها ان تزيد من وعي الناس حول هذه الامراض وتقوم بتثقيفهم نفسيًا، وأن تدرس كلفة العلاج النفسي اليوم مع ارتفاع الأسعار الجنوني للأدوية النفسية. 
أما الثانية فعليها ان تعطي الأهمية لوجود أخصائي نفسي في كل مدرسة على الاقل لرصد حالات المراهقين قبل فوات الأوان. 
(مختصّة نفسية)