بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 أيار 2022 12:03ص هجرة الأدمغة... واقعها وانعكاساتها وعلاجها

حجم الخط
لماذا هاجرت الأدمغة العربية بشكل عام والأدمغة اللبنانية بشكل خاص لتعطي أكلها الخبرة في بلدان الاغتراب من أوروبية وأميركية، ولتقدّم في هذا المجال خدماتها الكبيرة التي ساهمت في تقدّم العلم والتكنولوجيا بشكل كبير وملفت ومثير؟
هجرة الأدمغة بدأت في لبنان منذ زمن ليس باليسير من اليوم الذي صمّم فيه العالم اللبناني الكبير حسن كامل الصباح على ترك وطنه لبنان للالتحاق بثورة العلم والتكنولوجيا في أميركا وليقدم مساهمته الكبرى في النهضة العلمية العالمية عبر تلك الاكتشافات الهامة التي أجراها، منذ ذلك الزمن بدأت التسهيلات العلمية والاقتصادية تجتذب إليها الكثير من عباقرة البلاد العربية الذين كانت بلدانهم تتخلّى عنهم بسهولة ويسر يناقضان الاهتمام الكبير الذي تقابلهم به البلدان الأخرى في أوروبا وأميركا.
هذه الهجرة التي تتصل من قريب بأزمة الثقافة في بلدان العالم العربي كله فحين تغيب الديمقراطية أو تتعرقل مسيرتها يغيب معها مبدأ تكافؤ الفرص الذي يؤلف الأساس أو قلب النظام الديمقراطي كله لأنه لا توجد ديمقراطية بدون اعتماد مبدأ تكافؤ لفرص. وقد يقول قائل إن لبنان هو بلد ديمقراطي والمبدأ المذكور ركن من أركان الدستور فكيف يتعرّض للزوال؟
الهجرة وفقا لما جاء في «لسان العرب» هي الخروج من أرض أي ترك الوطن غلى وطن آخر.
والهجرة على نوعين: هجرة من أجل غاية بهدف العودة وهجرة نهائية وهي الطلاق النهائي. وتقترب الهجرة من مفهوم يجاورها وإن كان يختلف عنها وهو مفهوم الغربة، فالغربة تحمل في طيّاتها الانتقال من مكان إلى مكان ولكنها قد تكون قائمة بمعزل عن الانتقال فيكون الإنسان عندها غريب حتى بين بني قومه.
والهجرة بحد ذاتها لا تخرج عن هذه القاعدة فإذا كانت الهجرة هدفية بغية تحصين الذات واكتساب المال بهدف عودة لاحقة لنقل هذا الكسب الى الوطن تكون الهجرة محمودة. ولنا في التاريخ الإسلامي أكبر دليل على ذلك في هجرة الرسول الأكرم بحيث اعتبرت هذه الحادثة أكبر حدث في تاريخ الإسلام فاعتمدت كأساس للتقويم الزمني فيه.
وتحمد الهجرة أيضاً إذا كان الإنسان لا يجد عملاً في وطنه، فعوض أن يبقى عالة على نفسه وعلى غيره فالأفضل أن يهاجر شرط أن تبقى الروابط تشدّه إلى وطنه ولو بقي جسده في الخارج لكنه يظل مشدودا في عاطفته وفكره الى وطنه الأصلي وبني قومه فيكون لهما معيناً ومساعدة وطاقة تمدّهم بقدرتها وقدراتها. وأكبر مثال على ذلك العون الذي مدّ به أبناء المهجر إخوانهم وأقاربهم في لبنان أثناء المحنة التي مرَّ بها. والهجرة بنظرنا وفي قناعتنا لا تُعدّ هجرة مضرّة وإنما هي ضمن الايجابيات وقد تكون مطلوبة أحياناً إذا كانت ضمن الوطن العربي لأن الطاقة الخلّاقة التي تعود بالخير على أي بلد عمّره لا بد أن يمتد خيرها ليطال البلاد العربية الأخرى.
أما الهجرة النهائية التي تبعد الإنسان بشكل مطلق فكره وروحه وجسده عن وطنه فهي الهجرة القاتلة.
يضاف إليها هجرة الإنسان الذي يترك وطنه وهو بحاجة إليه فيضطر للإستعانة بالأجنبي ليحلّ محله أو لملء الفراغ الذي يخلفه بمن هو أدنى مستوى منه فتلك هجرة قاتلة أيضاً وضررها كبير جداً. كما حصل في لبنان مؤخرا حيث فرغت أكثر القطاعات من الطاقات فانخفض مستوى أكثرها في هذا الوطن وما زلنا نبحث عن كيفية سد الفراغ. وأبرز دليل على ذلك ما عانته الجامعة اللبنانية بهذا الشأن.
هجرة الأدمغة والسياسة التربوية:
إن الدول مهما كان مستوی نموها الاقتصادي تؤكد أهمية التربية والتعليم لأبنائها وللاقتصاد الوطني... فالاستثمار في التربية والتعليم يساوي، إن لم يكن يفوق، بمردوده الاستثمار في أي قطاع إنتاجي آخر.
ترتسم حقائق جديدة، من هذه الحقائق أن النمو الاقتصادي والمنافسة الاقليمية والعالمية يفرضان تحديات جديدة على التربية والتعليم... فالعالم العربي لا يمكنه الاكتفاء بقوة إنتاجية ذات مستوى تربوي ومهني متدنٍّ وغير قادرة على التكيّف مع تطوّر العلوم والتكنولوجيات المالية وتقنيات الإنتاج.
إن الكوادر الفنية والعلمية المتخصصة الموجودة حالياً في العالم العربي هي من اعداد سياسات تربوية بائدة أو اللاسياسة التربوية أو السياسة المقصّرة عن الاتصال بالركب الحضاري والمعرفي والتكنولوجي الحديث، والمميّز منها استقبته جامعات العالم ومراكز بحوثه وسائر قطاعات الإنتاجية والمطلوب، كالي في سياسة تربوية مرتبطة بقطاع الإنتاج وقادرة على فتح أسواق العمل أمام خرّيجيها.
المطلوب هو سياسة تربوية تخدم التنمية في المجتمع ولا تكون عبئاً عليه بتصدير حملة شهادات من دون مضمون إنتاجي...
هجرة الأدمغة والعلاقة بالخارج:
التنمية البشرية مسألة من ذرّة في إطار المعطيات الراهنة بالانقطاع عن الخارج، عن مراكز الإعداد الجيد للعلوم والتكنولوجيات المتخصصة فالجامعات العربية تصدّر خرّيجيها المتفوّقين إلى جامعات العالم المتقدم، ومن هؤلاء من يبرز في حقل اختصاصه، فتعمد تلك الجامعات الى توظيفه أو إلى ربطه بأسواق العمل، وقلّة من هؤلاء تعود الى أوطانها لتصادف صعوبات جمّة في توظيف علمها وتطوير معارفها.
كل طالب مميّز يتابع دراسته في جامعة أجنبية هو عملية في عداد الأدمغة العقيمة المهاجرة التي تمنعها من العودة مغريات العمل في الأسواق الخارجية.
المطلوب هو عدم التفريط بهذه الثروة البشرية النازفة عن طريق تخصيصها بفرض عمل تتناسب وامكاناتها وتلبّي طموحاتها واحتياجات التنمية القومية.
الهجرة القسرية التي يدفع إليها المميّزون من أبنائنا لا يحدّ من تفاقمها سوى احتضان هؤلاء وإنهاء سياسة تهميش المثقف أو تسخيره. وانتهاج سياسة إشراكه في قرارات خیارات استراتيجية. فالقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي يتخذ وفقاً لنظرة شمولية عامة وهل من قرار سليم لا يشترك في صنعه أهل العلم والاختصاص؟
إن العلم والمعرفة هما القوة بحد ذاتها فالأمة التي تفتقر إلى المعرفة وتضحّي بحاملي هذه المعرفة تفتقر إلى أحد عناصر الحياة الأساسية وهي أمة تعيش على هامش التاريخ دون أن تشارك في صنعه.
إن هجرة الأدمغة وتغرّبها عن أهلها ووطنها إذا كانت غربة طلاق هي غربة قاتلة والسوس الذي ينخر جسم الأمة ويهدم بنيانها أما إذا كانت هدفية من أجل الاستزادة لنفع الوطن فهي خيرة وقد قال عمر بن الخطاب: هاجروا ولا تهجروا، وقال الإمام علي: الفقر في الوطن غربة. فلا نترك علماءنا ورجال الفكر فينا في عوز فكري ومادي بيننا حتى لا يكونوا غرباء معنا.
وفي إطار موضوع الكفاءات في لبنان يمكننا القول أن الدولة اللبنانية كمؤسسة إدارية لا تقوم بما يتوجب عليها على صعيد تقويم العلم والعلماء والبحث العلمي والتخصص وأنواعه وتوزيعه وبذلك تنتفي المقاييس التي يمكن استعمالها وخاصة على صعيد التخصص لتعرف ما هي بحاجة إليه وما ينقصها منه ولا بد من التفكير بوسائل أكثر ملائمة مع الظروف والأوضاع ومخططات التنمية القائمة على دعم الأدمغة، فمنذ آلاف السنين كان الرأسمال البشري الكفوء هو رأسمال لبنان، وقد أعادت الثورة التكنولوجية إلى الدماغ مكانته السامية واعتبرت الإنسان أسمی رأسمال لذلك بات على لبنان واجب حتمي ينبع من واقعه وذلك بتنظيم هذا الرأسمال البشري لكي يتمكن من الاستمرار والنهوض في عالم لن يكون البقاء والسيطرة فيه إلا للإعداد والتنظيم والإبداع، في الوقت الذي كانت تفوت الفرص من الإفادة من أي إنتاج علمي أو تقني يقوم به مبدعون لبنانيون نتيجة عدم توافر الشروط الاقتصادية لذلك نجد العديد من الأدمغة اللبنانية المعاصرة قد تألّقت في الغرب وأسهمت في العديد من الاكتشافات العلمية والتقنية الكبيرة لتوفر البيئة العلمية لها.