منذ زمن غير بعيد ومع اقتراب زمن حلول الاستحقاق الرئاسي برحيل رئيس وانتخاب رئيس جديد طبقا للدستور اللبناني وأصوات بدأت تتعالى منها علنية وأخرى مخفية تستهدف اتفاق الطائف الذي كان وليد حوارات ونقاشات مطوّلة قام بها ممثلي الشعب اللبناني الشرعيون وهم: رئيس وأعضاء المجلس النيابي، ومنه كان الدستور اللبناني ومن المعلوم أن دساتير الأمم والأوطان هي من أهم وقائع التاريخ الإنساني التي ترسم حياة المواطنين وتنظّم سير علاقاتهم القانونية والنظام الذي بموجبه تنتظم سلطات ثلاث: تنفيذية، وتشريعية، وقضائية. وتدور حول مفاهيم ثابتة من أبرزها الحرية لجميع المواطنين والمساواة فيما بينهم بصفتهم مواطنين بوطن واحد ودولة مستقلة ذات سيادة وقوى عسكرية من جيش وقوى أمنية تُعنى بالأمن الداخلي بين المواطنين، والأمن الخارجي وهو الدفاع عن الوطن والمواطنين بقواها الذاتية ومؤسسات فاعلة في مختلف نواحي الحياة، وعلى ضوء هذه المبادئ والأسس تقوم الدولة.
ويعلّمنا التاريخ أن الدول والأفراد تنشأ وتتقدّم وتتطور وتأخذ مكانها القوي والمحترم بين الدول كلما توفّر لها قيادات حكماء ذو إرادات قوية وأفكار نيّرة بنّاءة وعلم في إدارة وطن ومعرفة واسعة بالتعاطي مع عصره وزمانه ومع دول قريبة أو بعيدة، ويكون دأبه وعمله وتفكيره في خدمة الشعب والوطن والدولة، وأمثال هؤلاء هم العمالقة الذين يخلّدهم التاريخ خلافا لأقزام تحملهم ظروف معينة إلى مواقع قيادية أو رسمية في الدولة فيأخذون البلد إلى أسفل السافلين ولا يقرّون بجهلهم وأفعالهم التخريبية وفشلهم المرذول وتراهم يكابرون ويستقوون وهم فاقدون حتى عناصر المكابرة والاستقواء، لم يقيموا وزنا لمواطنين هم أصحاب الأرض وما عليها وهم حراسها ولا لوطن الشعب أهله وروحه ولا لدولة هي ناظمة حياتهم وعيشهم.
ولبنان والذي وجد منذ أعلن عنه المحتل الفرنسي أنه لبنان الكبير في أوائل عشرينات القرن الماضي ظل في دائرة المعاناة وعدم الاستقرار منذ إعلان استقلال العام 1943 الى ما بعد الحرب الأهلية حتى إقرار وثيقة الوفاق الوطني اللبناني بإجماع النواب اللبنانيين الذين وضعوا هذه الوثيقة والتي عُرفت باتفاق الطائف، وحملت الكثير من المبادئ الإصلاحية للبنان وترافقت بدعم عربي شامل ودولي عارم، ودخل لبنان، الشعب والوطن والدولة، في حالة أمن وأمان واستقرار وعادت عجلة الحياة الطبيعية للبلاد التي أنهكتها وكادت تطيح بها تقسيما وتفتيتا ومخططات خارجية متداخلة واحتلال صهيوني مجرم وصل باحتلاله المشؤوم لكل الجنوب اللبناني والبقاع الغربي وعاصمته بيروت، لكن بإعادة العافية للبنان الوطن وإعادة التلاحم الوطني للشعب وبفضل اتفاق الطائف الميمون الذي أوقف الحرب الأهلية ومجازرها البربرية وأنهى الميليشيا الطائفية المسلحة وصادر أسلحتها وأعاد القانون والنظام والمؤسسات خاصة مؤسسة الجيش التي مُنيت بانقسام ألويتها إلى حالات طائفية ومذهبية ومناطقية إلى أن تمكّنت قيادات حكيمة ووطنية سواء في رئاسات السلطات الثلاث وقيادة الجيش اللبناني وقادة ألويته بإعادة توحيده وتقويته وأصبح الجيش الوطني اللبناني لكل اللبنانيين واستعاد الهيبة والثقة له وللوطن اللبناني، وكان الإنجاز العظيم تحرير البلاد من العدو الصهيوني المحتل والذي كان لبنان بالنسبة إليه قبل التحرير غير ذي شأن وأصبح بعد التحرير الذي صنعته الثلاثية الذهبية اللبنانية هو في الموقع الخائف على مصيره بل ووجوده القائم على الغصب والعدوان والاحتلال.
لقد كشفت الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت في لبنان بتاريخ مشؤوم هو 13 نيسان 1975وعُرفت بمجزرة البوسطة في منطقة عين الرمانة والتي كانت تضم عدد وافر من الفلسطينيين تعرّضوا للقتل الجماعي، الدولة اللبنانية لأسباب يدركها اللبنانيون لم تستطع الإحاطة الواجبة بمسار هذه المجزرة ومحاولات حلّها وفرض الأمن ولم تستطع حتى انتشار الجيش اللبناني ومعالجة آثارها وتداعياتها الكارثية، من هنا انطلقت شرارة الحرب التي استمرت 15عاما وشهدت أعوامها جولات من القتل والتهجير لمناطق عدة طالت كل لبنان وكل المكونات الطائفية وتولّى البلاد وقيادة العباد ميليشيات مسلّحة فأقامت الحواجز الطائفية والمناطقية. وكثرت مخططات دول أجنبية هادفة التدويل والتقسيم والفدرلة وانقسام الجيش اللبناني إلى ألوية طائفية ومناطقية وكاد لبنان يشطب من على خريطة الدول، وتجاه هذه الأخطار المحدّقة والكوارث بكل بشاعتها، والتي جعلت من لبنان وطن العلم والثقافة والحضارة والمتميّز بشعبه وبموقعه وبعلاقاته، دولة وإنسانا، جعلته ساحة صراعات دموية ومطمع دول أخرى. ونزاعات متواصلة بين مكوناته الطائفية، ومن أجل إنقاذ هذا الوطن من المتقاتلين اللبنانيين أنفسهم وحمايته من الأهداف الخارجية تدويلا وتقسيما وإقامة دويلات طائفية تحركت الدول العربية إنقاذا للبنان كيانا وأرضا وشعبا وتمكّنت من احتواء حرب السنتين الأولى بقرارات قمتي القاهرة والرياض ونشر قوات ردع عربية في كل لبنان وساهمت بفرض الأمن والاستقرار في كل المناطق والبلدات، وكان لقوات الجيش العربي السوري الدور الأكبر وظلّ مشاركا اللبنانيين معاناتهم طوال 30 عاما ومع ذلك ظل لهيب الحرب قائما وكان أخطره الاحتلال الإسرائيلي وتبعه مجزرة صبرا وشاتيلا وتبعه فرض معاهدة 17 أيار 1983، وقد أسقط الشعب اللبناني البطل 17 أيار، كما تمكّن فيما بعد من دحر المحتل وتحرير أرضه في الجنوب والبقاع الغربي وقبلهما تحرير العاصمة بيروت.
وللتذكير، بداية الحرب اللبنانية اندلعت في عهد الرئيس سليمان فرنجية، ومن أبرز ما صدر حينها، الوثيقة الدستورية، ثم عهد الرئيس إلياس سركيس وعقد مؤتمر قمة القاهرة بتاريخ 25 تشرين الأول 1976, وحملت اسم قمة لبنان، وفي 15/17 تشرين الأول 1978 عقد مؤتمر بيت الدين لوزراء خارجية الدول المشاركة بقوات الردع وخلف الرئيس سركيس وبصورة ملتبسة في ظل الاحتلال الإسرائيلي بشير الجميل حيث جرى اغتياله وكان عهد أمين الجميل وبعده دخل لبنان بعهد الحكومتين، حكومة الرئيس سليم الحص الشرعية وحكومة عسكرية مبتورة ميثاقيا برئاسة ميشال عون وسيطرته على قصر بعبدا الرئاسي الذي أخرج منه الى فرنسا منفيا حتى عودته اثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وانقسام لبنان إلى 8 و14 آذار، وتوالى على رئاسة الجمهورية تباعا الرؤساء: رينيه معوض الذي جرى اغتياله عقب الاحتفال الرسمي بعيد استقلال لبنان وخلفه الرئيس إلياس الهراوي ثم الرئيس اميل لحود فالرئيس ميشال سليمان ثم الفراغ الرئاسي لمدة سنتين ونصف السنة الذي رسمه حزب الله لمرشحه الذي رسم له الممر الإلزامي إلى قصر بعبدا ميشال عون وانتخب رئيسا للجمهورية اللبنانية.
وبالعودة إلى الاهتمام العربي المتعاظم حماية للبنان واللبنانيين وبصورة عاجلة أوجبتها، قيام حكومتين، عقد مؤتمر قمة عربي غير عادي في مدينة الدار البيضاء - المغرب - تاريخ ٢٣-٢٦ أيار ١٩٨٩، وجاء في مقدمة قراراته: بعد أن تدارس الأزمة اللبنانية بروح المسؤولية العربية الجماعية التاريخية وناقش مضاعفاتها ونتائجها وآثارها على لبنان والأمة العربية وأعرب عن قلقه من غياب الأمن في لبنان، وإراقة للدماء، وتدمير للمؤسسات والممتلكات وعجز في أجهزة الدولة، وشلل في مرافق المجتمع، وتردٍّ في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للشعب اللبناني (وتراها ذات المعاناة القائمة في العهد القوي الحالي) إذ يؤكد المؤتمر مجددا القرارات العربية المتعلقة بالتضامن القومي مع لبنان من أجل مساعدته على الخروج من محنته وإنهاء معاناته الطويلة وإعادة الأوضاع الطبيعية إليه وتحقيق الوفاق الوطني بين أبنائه ومساندة الشرعية اللبنانية القائمة على الوفاق، وتعزيز جهود الدولة اللبنانية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سيادة الدولة اللبنانية كاملة على كافة التراب اللبناني بهدف حماية أمنها واستقرارها، وبقواتها الذاتية وبسط سيادتها وسلطتها تمهيدا لإعادة إعمار لبنان وتمكينه من استئناف دوره الطبيعي ضمن الأسرة العربية.
وشكّل مؤتمر القمة هذا لجنة ثلاثية مكوّنة من الملك فهد بن عبد العزيز - السعودية، والملك الحسن الثاني - المغرب، والرئيس الشاذلي بن جديد - الجزائر، مع صلاحيات شاملة وكاملة لتحقيق الأهداف التي أقرّها المؤتمر.
وهكذا وبعد سنوات عجاف وحروب وصراعات داخلية سلطوية أنهكت لبنان وخاصة الساحة المسيحية بين حرب إلغاء وتحرير، وكانت الدول العربية مجتمعة مخلصة لقراراتها لإنقاذ لبنان وما ساده من حالات تمرّد وملاحقة نوابه الشرعيين ومنعهم الاجتماع بلبنان ووصولهم إلى وقف الحرب وحروب الآخرين وتحقيق إصلاح وتغيير فعلي وحقيقي بدل شعارات فارغة وصولا للسلطة وإمساكا بالحكم تحت مزاعم باطلة وادّعاءات توصل لبنان الى جهنم وبئس المصير وهي القائمة حاليا بلبنان وعلى شعبه الكريم، وكان المؤتمر التاريخي للنواب اللبنانيين الذي عقد بمدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 22 تشرين الأول 1989.