مع دخول وقف إطلاق النار في لبنان حيز التنفيذ، بعد فترة من التصعيد العسكري والسياسي، يبرز الشرق الأوسط كساحة مليئة بالتحدّيات والفرص. المنطقة ليست بمعزل عن ترابطاتها الداخلية، حيث تلعب ديناميكيات الصراع والتسويات دوراً حاسماً في إعادة تشكيل خريطة النفوذ السياسي والاقتصادي. وفي هذا السياق، يتقدم العراق كمحور رئيسي له تأثير عميق على الاستحقاقات المستقبلية في المنطقة، نظراً لموقعه الجغرافي الاستراتيجي ونفوذ القوى الإقليمية والدولية فيه.
يعتبر وقف إطلاق النار في لبنان محطة مهمة، لكنه لا يشكّل نهاية للصراعات التي تعصف بالبلاد. فلبنان ليس مجرد دولة صغيرة في الشرق الأوسط؛ بل هو مرآة تعكس التوترات الإقليمية. تتشابك مصالح القوى الكبرى في لبنان، من خلال الأحزاب والتيارات المتنازعة، مما يجعل أي تسوية داخلية ترتبط بتحوّلات أوسع نطاقاً في المنطقة. من هنا، فإن وقف إطلاق النار يمكن أن يُفسر على أنه استراحة تكتيكية بانتظار استحقاقات سياسية وأمنية قد تعيد صياغة التحالفات والتوازنات.
أما بالنسبة للعراق فهو يشكّل، بجغرافيته التي تربط بين الخليج وإيران وسوريا وتركيا، ساحة استراتيجية ذات أهمية قصوى. بالإضافة إلى موقعه، فإن العراق يمتلك موارد طبيعية ضخمة، وأهمية دينية وثقافية كبيرة، مما يجعله محط اهتمام القوى الدولية والإقليمية.
بعد سنوات طويلة من الحروب والتدخلات الخارجية، أصبح العراق اليوم بيئة معقّدة تحتضن تنافساً حادّاً بين القوى المختلفة. النفوذ الإيراني حاضر بقوة عبر الميليشيات والجماعات المسلحة المتحالفة، بينما تحاول الولايات المتحدة تعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي. وفي الوقت ذاته، تسعى تركيا لتوسيع دائرة نفوذها من خلال التدخّل في شمال العراق، في حين تراقب دول الخليج بقلق التوازنات المتغيّرة في بغداد.
في السياق الإقليمي، يُعتبر العراق نقطة وصل حيوية في مشاريع النقل والطاقة العابرة للحدود، مثل مشروع طريق التنمية الذي يربط آسيا بأوروبا. هذا يجعل منه طرفاً لا غنى عنه في أي تسوية سياسية كبرى تهدف إلى إعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط.
وهنا يستحضرنا الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون حيث كان قد قال يوماً: «خلّي عينك على العراق». هذه العبارة تختزل ببلاغة الترابط العميق بين ما يحدث في العراق وما ينعكس على لبنان، والعكس صحيح. في سياق اليوم، يمكن فهم هذه المقولة على ضوء مجموعة من العوامل المشتركة التي تجعل من أي تحوّلات في العراق مؤثرة على لبنان، والعكس.
أولاً، يشترك البلدان في كونهما ساحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية. ففي لبنان، تلعب إيران دوراً مركزياً من خلال دعم حزب لله، الذي يشكّل محوراً أساسياً في معادلة النفوذ الإقليمي. بالمقابل، يُعتبر العراق بوابة النفوذ الإيراني الكبرى إلى العالم العربي، عبر الميليشيات الموالية لها والتي تشكّل جزءاً من الحشد الشعبي.
ثانياً، يرتبط استقرار العراق ولبنان بالتوجهات الاقتصادية والسياسية العامة في المنطقة. على سبيل المثال، فإن أي انفراج في العلاقات الإيرانية - الخليجية سينعكس إيجاباً على استقرار لبنان والعراق، حيث سيؤدي إلى تقليص الدعم للميليشيات المسلحة وتوجيه الجهود نحو إعادة الإعمار والتنمية.
مع دخول لبنان مرحلة وقف إطلاق النار، يمكن أن تفتح الأبواب أمام عدد من السيناريوهات التي ترتبط بشكل وثيق بما يحدث في العراق:
فقد يكون وقف إطلاق النار مقدمة لتفاهمات أوسع تشمل العراق ودول أخرى في المنطقة. إذا ما تمكنت القوى الكبرى مثل إيران والسعودية وتركيا من الوصول إلى تفاهمات مشتركة، فقد يتجه العراق ولبنان إلى تهدئة الأوضاع الداخلية، خاصة إذا كانت هذه التفاهمات تتضمن خفض التصعيد وتقييد دور الميليشيات.
كما يمكن للعراق أن يكون شريكاً رئيسياً في جهود إعادة الإعمار في لبنان وسوريا. الموقع الجغرافي للعراق يجعل منه مركزاً لوجستياً طبيعياً، خاصة في مشاريع الطاقة والنقل.
أما بالنسبة الى إيران، التي تُعدّ لاعباً أساسياً في كل من العراق ولبنان، قد تجد نفسها مجبرة على إعادة ترتيب أوراقها في حال استمرت الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية عليها. هذا قد يؤدي إلى تقليص نفوذها في كلا البلدين، مما يفتح المجال أمام تسويات أوسع.
أما بخصوص الولايات المتحدة فهي تسعى إلى الحفاظ على نفوذها في العراق كمحور لمصالحها في المنطقة، مما يضعها في مواجهة مباشرة مع إيران. في الوقت ذاته، تحاول تركيا التوسّع في كل من العراق وسوريا، مما يزيد من تعقيد المشهد.
من الواضح أن مستقبل الشرق الأوسط مرتبط بشكل وثيق بما يحدث في العراق ولبنان. إذا تمكّن العراق من تحقيق استقرار نسبي وتقديم نفسه كدولة قوية ذات سيادة، فإن هذا سيؤثر بشكل إيجابي على بقية المنطقة. وفي الوقت نفسه، فإن أي انفجار للأوضاع في العراق سيؤدي إلى تداعيات مباشرة على لبنان وسوريا ودول أخرى.
مقولة كميل شمعون، «خلّي عينك على العراق»، لا تزال تحمل أهمية استراتيجية في فهم ديناميكيات المنطقة. العراق ليس مجرد دولة، بل هو محور في شبكة معقّدة من المصالح الإقليمية والدولية. نجاح العراق في تجاوز تحدّياته قد يكون بداية لمرحلة جديدة من الاستقرار في الشرق الأوسط، بينما أي انتكاسة فيه قد تُشعل موجة جديدة من الصراعات.
* محامٍ - دكتوراه في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية