بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 نيسان 2025 12:05ص اللبنانيون مدعوون لاستقاء العِبَر من الحرب الأهلية وما تلاها من صراعات

حجم الخط
شكّل انطلاق شرارة الحرب الأهلية في لبنان بتاريخ 13 نيسان عام 1975 نقطة تحوّل في مسار الدولة وتسبب في قلب الأمور رأساً على عقب، وبعد أن كان لبنان يسلك مسار تصاعديًّا نهضويًّا حقق له الإزدهار ووفّر البحبوحة للبنانيين استدار بنتيجة الحرب 180 درجة سالكاً مساراً انحدارياً لا ندري إلى أي درك سيوصلنا، إلّا أننا علي يقين أننا أمسينا قاب قوسين أو أدنى ونصل قعر الهاوية، لأن الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والصحية لا مثيل لها، كما أمسينا مضرب مثل لكل السلوكيات السياسية الهابطة.
أبطال الحرب كثر منهم من كان يتفاخر بدوره خلالها ومنهم من تنصّل من مسؤولياته عنها، الثابتة الوحيدة أنها أي الحب قوضت كل المقومات الديمقراطية، وخلخلت النظام السياسي، وكان لها تبعات كارثية على مستقبل لبنان واللبنانيين، هذا بالإضافة لإقحام لبنان في قضايا إقليمية تفوق قدرته على تَحمّل أوزارها، وفي طليعتها القضية الفلسطينية ومؤخراً حرب غزة وما تلاها من حروب.
الحرب الأهلية اللبنانية كما حروبنا مع العدو الإسرائيلي ينبغي ألا تُنسى، وعلينا أن نتعظ منها ومما آلت إليه أوضاعنا بسببها، حروب عبثية أوقفت مسار الإزدهار وقضت على كل ما كان لدينا من رقيّ، وأدّت إلى تدمير ما كان لدينا من بنى تحتية وتطور عمراني وتميُّز سياحي ومصرفي وتفوّق علمي وثقافي مقارنة مع دول الجوار، وجعلتنا كمتسوّلين نستجدي القروض والمساعدان من البنك الدولي وغيره.
لقد تسببت تلك الصراعات في إثارة الغرائز الطائفية والذهبية بين مكونات الشعب اللبناني، وكان لها انعكاساتها السلبية على الأحزاب بحيث تحوّلت من أحزاب وطنية عقائدية إلى أحزاب متزمتة دينياً وطائفيًّا ومذهبيًّا وأفرزت طبقة سياسية فاسدة استفادت من الميليشيات التي شكّلتها لتحقيق مكاسب مالية وسياسية على حساب القوى السياسية الوسطية، الأمر الذي أدّى إلى انعكاس العقلية المليشياوية على أدبيات الممارسات السياسية بحيث أمست أقرب لأدبيات الشوارع. كما تسللت تلك الممارسات إلى النسيج الاجتماعي ما أدّى إلى عداوات بين عامة الناس لا لشيء سوى لتمايز انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، وأدّت إلى نزاعات مسلحة في كثير من الأحيان أسفرت عن وقوع العديد من القتلى ومئات آلاف الجرحى والمعوقين وتهجير ما يقارب مليون شخص عن قراهم ومنازلهم.
لم تكن الحرب في لبنان يوماً مبنية على دوافع طائفيّة أو مذهبيَّة، إنما تم تصويرها على هذا النحو لتمكين كل زعيم من إحكام قبضته على أبناء طائفته والتحكّم بهم بإثارة غرائزهم الفئوية، وقد نجح قادة الميليشيات في تقويض هيبة الدولة وإسقاط النظام السياسي الذي كان قائماً، وتحكّموا بمفاصل الحياة السياسية. وتكرّس وجودهم في السلطة بتوقيع التسوية السياسية في الطائف واشتدّ نفوذهم بولوجهم إلى داخل النظام السياسي حاملين معهم مقارباتهم الميليشياوية، التي رسّخت تقاسم الحصص فيما بينهم، وسطوا على ما طاب لهم من أموال الدولة العينية والمالية وأمعنوا في خرق الدستور وانتهاك القوانين، وهمّشوا الشعب وجرّدوه من حقوقه السياسية. ورسّخوا ثقافة الإفلات من العقاب بإقرار قوانين عفو عام لتبييض صحائفهم الجرائم التي اقترفوها خلال سنوات الحرب وما بعدها، حيث تحوّلوا إلى مجرمين من أصحاب الياقات البيضاء، ينفذون جرائمهم الخطيرة بدم بارد متستّرين بمناصبهم ومحتمين بطوائفهم.
استذكار الحرب ضرورة ملحّة لتجنّب تكرار ما لحق بلبنان واللبنانيين من خسائر بشرية ومادية جسيمة، والتي تفاقمت بانفجار مرفأ بيروت عام 2020 وبلغت ذروتها بنتيجة الحرب غير المتكافئة مع العدو الإسرائيلي، والتي انفرد البعض بقرار اقحام لبنان بها.
تدعونا الموضوعية للقول أن معظم الصراعات التي عرفناها في لبنان أقحمنا أنفسنا بها من دون موجب ولو تجنّبناها لاستغلّينا الكثير من الفرص الكفيلة بالنُّهوض بالوطن ولجعلناه في صدارة الدول المزدهرة، مستفيدين من معظم الأزمات التي عرفتها المنطقة ولاستقطبنا رؤوس الأموال الهاربة من دولها والتي كانت تشكّل فرصة لاستغلالها في تطوير مختلف قطاعاتنا الانتاجية والاقتصادية.
يساعد استذكار الحرب الأهلية على استخلاص العِبَر منها ومن كل الصراعات العبثية، كما ثمة أهمية في استخلاص الدروس من دول أخرى عاشت ظروفاً مشابهة ونجحت في تخطّيها والنُهوض مُجدَداً من كبوتها، وفي هذا الإطار لا بد من الوقوف على تجارب بعض الدول كجنوب أفريقيا التي عانت من الفصل العنصري الذي تسبّب بشرخ عامودي بين الشعب على أساس عرقي، ولكن المكافح نلسن مانديلا نجح في إطلاق عملية مصالحة وطنية شاملة وفق أسس عادلة ومتوازنة بعد محاكمات شفافة اعترف بموجبها الجناة بمسؤولياتهم مقابل العفو عنهم، وفي المقابل عُوِّضت الدولة على الضحايا، فانتشلت ذاتها من وحول حرب قذرة، كما يمكننا استخلاص الدروس من روندا التي استطاعت أن تتخطّى انقسامات إثنية بعد حرب أهلية طاحنة تخاللها مجازر فظيعة، وذلك من خلال ترسيخ المصالحة الوطنية وإعادة البناء، وقد تمكنت خلال فترة قياسية في تخطّي تلك الانقسامات والنهوض بالدولة، مستفيدة من وجود قيادة عليا حكيمة وحازمة «بول كاغامي» الذي قاد البلاد إلى المصالحة بقبضة حديدية، بعد إجراء عدالة انتقالية حوكم بموجبها مجرمو الحرب لتفادي الانتقام، وفي المقابل تم تضميد جراح الضحايا نفسيا وماديا، والتجربة الروندية تؤكد أن المصالحة تبقى ممكنة حتى في أسوأ الصراعات، ولكن شرط تبنّي مقاربات قضائية مُتجردة وشفافة، والعمل بموازاة ذلك على جذب الاستثمارات من خلال إصلاح النظام المصرفي والضرائبي وقطاعي الكهرباء والمواصلات. كذلك يمكننا استقاء الدروس من تجربة إيرلندا الشمالية التي أُنهِي الصراع الطائفي فيها باتفاق قضى بنزع سلاح الجماعات المسلَّحة لقاء مشاركة عادلةٍ في السلطة، وكذلك الأمر بالنسبة للتجربة الكولومبية ارتكزت على نزع السلاح وإنهاء حرب العصابات المسلَّحة وإعادة تأهيل ودمج مقاتليها في المجتمع، واستكمل ذلك بعملية إصلاح زراعي للنهوض بالأرياف والتشجيع على إقامة منشآت صناعية فيها تُعنى بتعليب المنتجات الزراعية؛ وهاتين التجربتين يستفاد منهما بضرورة تخلّي جميع الأحزاب وميليشياتها المسلحة عن اسلحتها والإحتكام إلى اللعبة الديمقراطية في إدارة شؤون الدولة، كذلك يمكننا الاستفادة من تجربة البوسنة والهرسك وبالتحديد من الكيفية التي اعتمدت في إدارة التَّعدُّدية بعد حرب إبادة جماعية، وذلك بالاتفاق على تقاسم السلطة وتلافي الفوضى باعتمادِ ضوابط دستورية عادلة، وتبنّي مبدأ اللامركزية الإداريَّة، ونضيف تجربة سنغافورة التي استطاعت بفضل تصدّيها للفساد بلورة أنموذج فريد للنمو الاقتصادي رغم افتقادها للثروات الطبيعية، وذلك باعتماد قوانين صارمة ضد الفساد وبناء مؤسَّسات رسمية قوية بتبنّي معايير صارمة تقوم على أساس الجدارة، وتحقيق جهاز قضائي مستقل ومحصّن ضد التدخّلات السياسية، وأخيراً يمكننا استقاء الدروس من تجربة الإمارات الشقيقة التي أرست التعايش بين مختلف المكونات المجتمعية المتعددة، وتبنّت نظاما اتحاديا متماسكا ينبذ التَّمييز المذهبي، ويركّز على الجوانب الاقتصادية، والسعي إلى استقطاب الكفاءات، وتحفيز رؤوس الأموال للانخراط في الاستثمارات، من خلال تيسير إنشاء الشركات والمؤسسات الخاصة، ونستخلص من تجربتها أن الاستقرار والازدهار الاقتصادي يحول دون الانقسامات الداخلية في حال اقترن بعدالة ومساواة وتكافؤ الفرص.
وأهم ما يمكننا الخروج به من تقييمنا لتجارب الدولية الأخرى التي نجحت في تجاوز أزماتها وتبعات الحروب التي عاشتها يتمثل في أهمية إجراء حوار وطني شفاف برعاية شخصية وطنية وازنة ومستقيمة، وخير من يمكنه القيام بهذا الواجب الوطني هو فخامة رئيس الجمهورية، كما لا بد من أن تستكمل الجهود بإصلاح دستوري يُلغي الطائفية السياسيَة ويُعالج كل الثغرات الدستورية التي تكشّفت من خلال تطبيق الطائف، والتأكيد على إجراء مساءلة قانونية عادلة وفتح كل الملفات القضائية العالقة وفي طليعتها قضية انفجار المرفأ ويليها تحديد المسؤولية عن الإنهيار المالي والمصرفي والنقدي وكل الجرائم ذات العلاقة بالفساد. وبموازاة ذلك ينبغي فتح ورشة إصلاح شاملة ومتكاملة تشمل جميع القطاعات السياسية والاقتصادية والمالية، مع إيلاء أهمية خاصة لإصلاح القطاع العام بدءاً بالجهاز القضائي مروراً بجميع الأسلاك الوظيفية بما فيها العسكرية والأمنية، وانتهاءً بورشة إعادة هيكلة مختلف إدارات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وهيئاتها ومجالسها لترشيد الإنفاق الحكومي عليها وتفعيلها وزيادة انتاجيتها وتحسين نوعية الخدمات التي توفّرها للمواطنين.
وأخيراً لا بد من إرساء مقومات الحكم الرشيد القائم على الحوكمة والشفافية والمساءلة، واحترام القرارات الدولية، وحظر المحاصصة ومختلف أنوع التصنيفات الطائفية والمذهبية، وتبنّي قانون انتخابي على أساس نسبي ووفق دوائر موسّعة تُعزِّز الانتماء الوطني وتحدّ من الولاءات المذهبيَة والمناطقية، ويقلّص نفوذ الميليشيات. ولا بد من توجيه دهوة للزعماء اللبنانيين للتضحية ببعض مكتسباتهم الشخصية والفئوية لصالح المصلحة الوطنية العليا، إذ لا بد من انضواء مختلف المكونات السياسية تحت مظلة الدولة، بتبنّي مقاربة جذرية للمشاكل السياسية التي تعاني منها مختلف المكونات السياسية، والحدّ من التدخّلات الخارجية على نحو يجنّب لبنان مخاطر الصراعات الدولية والإقليمية، وكي لا يكون ساحة لتصفية حسابات خارجية.
ونخلص للقول إن تحقيق مستقبل زاهر للبنان يستدعي منا تشجيع الأجيال الشابة على الإنخراط في الحياة السياسية والعمل على تطوير قدراتها الذاتية لرفع مستوى إنتاجيتها ومساهمتها في نمو الوطن. كما أن لبنان اليوم على مفترق مسارات مُتباينة يستصرخ ضمائرنا كمواطنين، فإما نتجاوز أنانياتنا ونعمل على إعادته لسابق مجده وإما نغوص في المزيد من الصراعات الدَّموية.