بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 نيسان 2025 12:05ص المناصفة القسريّة في بلديّة بيروت تهدّد العيش المشترك وتجافي الدستور

حجم الخط
وقّع عددٌ من نواب بيروت مشروع قانون معجل مكرر يهدف إلى تعديل آليّة الانتخابات البلدية في بيروت، مرتكزاً على نقاط رئيسية تتضمن تكريس بيروت دائرة انتخابية واحدة، وفرض المناصفة بين المسلمين والمسيحيين عبر اعتماد نظام اللائحة المقفلة، واعتبار أي لائحة غير مكتملة أو لا تراعي المناصفة غير شرعية وتناقض ميثاق العيش المشترك، بالإضافة إلى تعديل صلاحية المحافظ بإعادة تحديد مهلة قصوى لتنفيذ قرارات المجلس البلدي يُحال بعدها قرار التنفيذ حكماً إلى وزير الداخلية والبلديات. وفي حين أنّ تحقيق المناصفة بالتوافق والتراضي يظلّ الخيار الأمثل الذي يحرص عليه أهالي بيروت، فإن محاولة فرضها قسراً عبر تشريع قانون يُلزم الناخبين بنظام المناصفة ويفرض عليهم خيارات مُعلّبة ضمن لوائح مقفلة، فهو أمرٌ مرفوض جملةً وتفصيلاً، كونه يتعارض بشكل صريح مع الدستور، ويقوّض حرية الناخب الأساسية في اختيار ممثليه بحريّة، ويناقض جوهر ميثاق العيش المشترك القائم على التوافق لا الإكراه.
إنّ الدستور المعدّل عام ١٩٩٠ بموجب وثيقة الوفاق الوطني قد نصّ بوضوح في البند الأخير من مقدمته على أن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، ممّا جعل التقيّد الصارم بهذا الميثاق شرطاً جوهرياً لشرعية أي سلطة، قوامُه التوافق والتفاهم الراسخ بين المسلمين والمسيحيين على إدارة مؤسسات الدولة السياسية والدستورية. وتكمن الخطورة الحقيقية في غموض الميثاق الوطني وتفسيره الطائفي الانتقائي والضيّق، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً لتحويل أي خلاف سياسي يستوجب المعالجة عبر القنوات القانونية الاعتيادية إلى معضلة ميثاقية مستعصية على الحلّ إلّا بتأمين إجماع طائفي حولها، وهو ما يشلّ الحياة السياسية ويُعرقل عمل المؤسسات. وقد استساغت الأحزاب السياسيّة هذا التفسير الانتقائي لميثاق العيش المشترك، كلٌّ على هواه ووفقاً لمصالحه الضيقة، وحوّلت كل شأن لا يروقها إلى مسألة ميثاقية، ممّا سمح بإخضاعه لما يُعرف بـ «فيتو الطوائف» وعطّل في كثير من الأحيان سير المؤسسات وعملها بفاعلية. وامتناع أعضاء مجلس بيروت البلدي عن حضور الجلسات خير دليل ملموس.
يحكم ميثاق العيش المشترك ضمانتان مرحليتان نص عليهما الدستور بوضوح، اّولاهما تتعلق بالمناصفة في عدد النواب بين المسيحيين والمسلمين بموجب المادة ٢٤ منه، وذلك كتدبير مؤقت ريثما يتمّ إلغاء الطائفيّة السياسيّة، أو بالأحرى سياسة الطوائف؛ والثانية تتناول الإبقاء على المناصفة مرحلياً في وظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها، مع التأكيد على عدم تخصيص أي وظيفة لأي طائفة والالتزام المطلق بمبدأي الاختصاص والكفاءة بموجب المادة ٩٥ منه. وبالتالي حصرت المادتان المشار إليهما تطبيق مبدأ المناصفة حصراً بأعضاء مجلس النواب وموظفي الفئة الأولى، وذلك كإجراء استثنائي ومؤقت بانتظار التحقيق الكامل لإلغاء الطائفية السياسيّة. لذلك لا يمكن توسيع نطاق هذا المبدأ ليشمل مواقع أخرى، ومن ضمنها المجلس البلدي لبيروت، الذي يختصّ أصلاً، في إطار السياسة العامة للدولة وخططها التـنموية، بتقديم الخدمات البلدية ضمن نطاقه، آخذاً في الاعتبار واقعه الديموغرافي.
أمّا اليوم فيتجلّى سعي حثيث لفرض المناصفة قسراً على ناخبي بيروت عبر مشروع القانون الذي قدّمه مجموعة من نوّاب العاصمة، خدمةً لمصالحهم الشخصيّة والحزبيّة الضيّقة، وذلك بالإكراه القانوني والحصار السياسي من خلال اعتماد نظام اللائحة المقفلة. ويتذرّع هؤلاء النوّاب ومن يقف خلفهم من أحزاب وقوى سياسيّة زوراً بالحفاظ على ميثاق العيش المشترك، في تجاهلٍ لتطبيق هذا المبدأ في سائر المحافظات والمدن اللبنانية المختلطة الأخرى، وتعامٍ عمديّ عن الواقع الديموغرافي الجليّ للعاصمة وإرادة أهاليها الذين يشكّلون جزءاً أصيلاً ووازناً من الشعب، وهو وحده مصدر السلطات الشرعية.
وبالنظر إلى التكوين الحالي للمجلس البلدي في بيروت، الذي يضمّ ٢٤ عضواً، وإلى التوزيع التقريبي للناخبين في العاصمة البالغ نحو نصف مليون ناخب، حيث يشكّل المسلمون حوالي ثلثي العدد والمسيحيون الثلث، فإنّ التمثيل البلدي العادل يجب أن يكون نسبياً، فيكون التوزيع المنطقي للمقاعد يقتضي تخصيص ١٦ مقعداً للمسلمين و٨ مقاعد للمسيحيين، بما يعكس الوزن الديموغرافي لكلّ من الطائفتين في العاصمة. ويظلّ تحقيق المناصفة بالتوافق والتراضي خياراً مشروعاً إذا ما ارتضاه أهالي بيروت بحرية، أمّا محاولة فرضها قسراً على بيروت عبر التفاف تشريعي مشبوه، ما هو إلّا محاولة لتكريس نفوذ سياسي ضيّق على حساب الوحدة الوطنية والتمثيل الحقيقي.
وفي مطلق الأحوال، يتوجّب تعديل قانون البلديات الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي رقم ١١٨ لسنة ١٩٧٧ وتعديلاته، وتحديداً في المادة ٦٧ منه التي نصّت على أن «يتولى السلطة التنفيذية في البلدية رئيس المجلس البلدي، وفي بلدية بيروت يتولاها المحافظ»، وكل مادة أو نص معطوف عليها، حيث تُنقل الصلاحيات التنفيذية من المحافظ الى المجلس البلدي أسوة بباقي البلديات اللبنانيّة، والاكتفاء بدور المحافظ الرقابي. ومن شأن هذا الإجراء إنهاء حالة الحرمان والمظلومية التي تعاني منها بيروت، وتمكين المجلس البلدي المنتخب من تنفيذ مقرّراته بشكل فوري، وتأمين الخدمات الضرورية للعاصمة وأهلها دون الوقوع في براثن التجاذبات والسجالات السياسية حول المسؤوليات والاختصاصات.
ختاماً، إنّ بيروت، بتاريخها العريق وتنوّعها الغنيّ، تستحقّ مجلساً بلدياً يعكس بحقّ إرادة حرّة وواعية لناخبيها، ويجسّد تركيبتها السكانية الفريدة ويخدم مصالحها الحقيقية وتطلعات أهلها، لا مجلساً مُكبلاً بلوائح مُعلّبة تفرضها حسابات سياسيّة ضيّقة وعابرة، وتُهدّد نسيجها الاجتماعي المتماسك وفرادتها الحضارية. وعلى القوى السياسيّة أن تُدرك بعمق أنّ العيش المشترك الراسخ يرتكز على التوافق والشراكة الحقيقية والتمثيل المنصف، لا على الإكراه وفرض المعادلات بالقانون الذي يتجاهل الحقائق الديموغرافية وإرادة الشعب.