لا دفاعاً عن المقاومة في غزة ولا في لبنان، سؤال: لولا اطمئنان الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أن الضربتين القاسيتين اللتين وجّهتهما إسرائيل إلى حركة حماس وحزب الله، بموافقة عربية تامة، كانتا «مناسِبتَين» له، هل كان يجرؤ بخفّة وعنصرية ودَوْس على كرامة مليار عربي ومسلم على طرح، مجرّد طرح، مشروعه لتهجير مليون فلسطيني إلى الأردن ومصر؟ مؤكد لا. ذلك يعني، أن المقاومة في غزة ولبنان كانتا، من حيث لا تدريان ولا تدري الأنظمة العربية، تدافعان عن تلك الأنظمة من شطط أميركي أو إسرائيلي فظيع بطرح حلول أقرب إلى الخبَل منها إلى السياسة.
لقد بلغَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الثقة بقوّته وعنفوانه واقتداره على تغيير الخرائط في الشرق الأوسط حالةً من الفيض «الإلهي» الذي يعطي الأوامر المقدّسة عن بُعد آلاف الكيلومترات الفضائية فتُنفّذ مقتضياتُها عبر تصريح في خطاب أو جلسة سمَر مع أركانه، مِن طلَب خمسمائة مليار دولار من السعودية فأُجيبَ بستمائة، أي مع زيادة حبّة مسك، إلى طرد المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين فوراً مكبلي الأيدي والأرجُل، إلى ضمّ كندا والسيطرة على قناة بنما.. إلى.. إلى.. من دون إرسال جندي واحد. ويعتبر أن كل ذلك سيتحقق لهُ ما أن يتحدّث عنه في الإعلام!
غير أن الخطورة الكبرى هي عزمُه على «دَفش» الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلّة إلى الأردن، ومصر، و«يأمل» أن يساعده الملك الأردني عبدالله والرئيس المصري السيسي في هذه الخطط، والسبب «إنه راغب في رؤية الفلسطينيين يعيشون من دون اضطرابات»، ويقول بالحرف «يجب تطهير هذا الشيء» والشيء هنا هو غزّة التي يأنف من ذِكر اسمها!
يا بَعد عَينِي ما «أجمل» هذا الإنسان الذي سيعيد أميركا «إلى العصر الذهبي» على الهِيْنَة وببساطة من يحلُم وعلى الآخرين الانصياع لأحلامه، ويتطلّع «من فوق» إلى أسفل، إلى الدول والأشخاص والقضايا التي تعنيه، محرّكاً رقبته يميناً ويساراً وزامّاً شفتيه تعبيراً عن العظمة التي لن يستطيع أحد مواجهتَها في رأيه!
ما عجز جيش الإحتلال الإسرائيلي وقياداته السياسية العنصرية ووراءه اليهودية العالَمية عن تحقيقه على مدى ثمانين عاماً قهراً واستعباداً ومجازرَ إبادةٍ جماعية متَوالية مع الزمن فبقي الفلسطينيون في أرض الأجداد رغم الدم والدمار ومصادرة الأرض وامتهان كرامتهم بألف شكل ولون، كل ذلك سيسعى ترامب إلى تحقيقه وكأن هذا الصراع الأسطوري الهائل يُختتم بشطحة لسان مستكبر يرى في «التطهير» العِرقي نهجاً، وبترتيبٍ عقلي أرعن. بل كأن الكون العاجز عن ختْم الإجرام بحق فلسطين وأهلها في الحياة، كان ينتظر «مخلّصاً» أميركياً يكمل سياسة المَحْو اليهودية الأولى والمتمادية حتى خمسين ألف شهيد غزّاوي في سنة واحدة، ومن أجل ماذا؟ من أجل «راحة» الفلسطينيين ورفاههم!
أوَليس عجيباً أن أكثر بلدين مطبّعين باتفاقيات سلام مع إسرائيل وهما الأردن ومصر، وعلاقتهما مع الولايات المتحدة تحالُفٌ وتنسيق واطمئنان، مدعوَّين اليوم إلى العودة إلى بداية القضية الفلسطينية وحروفها الأولى باستقبال أكثر من مليون فلسطيني مشرّدين مجدّداً وتَدبُّر أمورهم، لتتخلص إسرائيل من أوجاعها وأزماتها واختناقها، فتنال بذلك، بعد الثمانين عاماً من المجازر الوحشية جائزة «الراحة الأبدية» على يديّ ترامب الذي يشعر أن أرض فلسطين الصغيرة «ضيقة على اليهود»، وما دامَ متعذراً توسيعها اليوم، فلنذهب جميعاً زرافات ووحداناً وقطعاناً عربية، إلى تلقّف مبادرته الخيالية المعتمِد فيها على «صداقته» مع الأردن ومصر، وتأثير مساعداته المالية السنوية عليهما، والمُعتقِد أنها ستحصل برمشة عين؟
ماذا سيفعل ترامب عندما تتجمع لديه الأجوبة من كل المعنيين بالرفض؟ هل سيفرض على الحكم في مصر بالتهديد والوعيد وجزرة المساعدات أن يسير بالفكرة التي توازي مشقّة تاريخية ضخمة، بخلفية أن الأراضي غير المأهولة في مصر كبيرة وتستطيع استيعاب الفلسطينيين وكان الله يحب المُحسنين.. إلى إخوانهم العرب؟ وهل سيفعل الأمر نفسه مع الحكم الأردني الذي يعيش شعبه تركيبة أردنية - فلسطينية حسّاسة قابلة للاشتعال؟
حتى الآن، لا يزال العالَم العربي ببلدانه كلها يتعامل مع فكرة ترامب هذه من دون أي رد فعل حقيقي وواضح ومبدئي. الملك الأردني تكلّم «باسمه واسم الرئيس المصري بأن المشروع خط أحمر» لن يمر. والسيسي أعلن «الحل للفلسطينيين هو الدولتان». في وقت قال ترامب ردّاً على سؤال احتمال رفض مصر والأردن تنفيذ المُقترَح «إنّهما ستفعلان».. وردّدها أربع مرات متتالية في جُملة واحدة، بثقة خيالية. وسيضعُ مشروعه على الطاولة للتنفيذ، لا للنقاش طبعاً، وإلّا...
قلاقل واضطرابات وخربَطة داخلية عنيفة في الأردن ومصر، ويكون بين مطالبها المسمومة تفعيلُ رأي ترامب والسير به واقعاً؟
لا الأنظمة العربية، نظاماً نظاماً، قادرة على الدخول في هذا النفق الأميركي الطويل، لألف سبب وسبب، ولا الفلسطينيون يمكن أن يوافقوا، ودون ذلك حروب جديدة بين إسرائيل والفلسطينيين لا حماس وحدها بل السّلْطة قبلها، وبقية الفصائل تأتي. ومَن يضمن ماذا يمكن أن يحصل في المنطقة من فوضى لا خلاقة بل حَلّاقة لذقون كبيرة وصغيرة وشوارب بطول ذراعين وأكبر؟
إمّا أن ترامب مخبول ومدّعي امبراطورية استثنائية تجسّدها مقولة «حاكمك وربّك» في هذا الزمن، وإما أن دول العالَم العربي أصبحت سياسةً وشعباً ومؤسسات في الجَيْبِ الأميركي الواسع وليس لها أن تقول إلا نعَم. ذاك أن اقتراح ترامب يعلِن بالفم الملآن موتَ العرب عن بكرة أبيهم. ويُعلن في ما وراء الموقف بأنّ النمر الإيراني الذي شغَل المنطقة ثلاثين عاماً بالقضية الفلسطينية انتُزعت أنيابه وبات عليه الانتباه إلى نفسه فقط لا غير إلى أن يحين توقيتُ التعامل المباشَر معه.
هو كابوس وسيكون الأكبر والأخطر على الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة.
قال الرئيس حسني مبارك في نهاياته «المتغطي بالأميركي عريان» غير أن المعضلة هي وصوله إلى هذه الحقيقة قبل لفظ أنفاسه الأخيرة لا قبلها. وهكذا الآخرون.