بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 تشرين الثاني 2018 12:01ص سواد الصحافة وبياضها

حجم الخط
الزحف البطيء، لكن الحثيث، إلى موت الصحافة ما عاد يمكن انكاره، ولا حتى التخفيف من وطأته وبشاعته وحدته بـ«تصريح استنكار» من هنا، أو «بيان أسف» من هناك. ولا عادت علامات الإعجاب على منشورات التواصل الاجتماعي قادرة على تأجيل إعلان هذا الموت القبيح الذي نال من مهنة ومن مهنيين.
وطأة هذا الموت وقسوته ليست مقصورة على اعتباره يبدد مهنة، أو انه اقفل «باب رزق» لمحررين وكتّاب وصحافيين. على أهمية هذين الأمرين وارتداداتهما الاجتماعية، يبقى ان موت الصحافة يعني موت سلطة اخلاقية في وجه السلطات في ممارسة الحكم. لا بل أكثر، فموت الصحافة يثير الرعب في النفوس جرّاء مشهدين متقابلين. الأوّل يتعلق بالقارئ نفسه. اما الثاني فيتصل بشدة بالحكم ونزوعه التلقائي أو العفوي إلى التحكم بدلاً من الحكم. ذلك ان الصحافة لطالما كانت الرقيب والحسيب الذي يوقظ الضمائر وينبه الى المخاطر. هذا الدور يبدو انه الى افول.
الموت الصحافي الذي نحن في صدده كان الإعلان الأكثر فظاظة عنه،  هو في صدور جريدة «النهار» ببياض ينذر بسواد عميم يبدد ما كانه الحبر الأسود ذات يوم، وهو يخط آفاقاً من الشفافية والبياض حول واقع الدولة، ومآلات الحكام والمحكومين على حدّ سواء. لقد سبق هذا «الموت الصحافي» إعلانات متقطعة عن انهيار كبريات الصحف في لبنان الذي لطالما اتسم وتميز بحرياته الصحافية التي وصلت أو بلغت في احيان كثيرة حدّ الفوضى. ولئن اضطلعت بعض الصحف، وبادوار متفاوتة، بدور المنصة لهذه الدولة أو تلك. لكن كل هذا لا يعفي من مهمة الوقوف عند فضائل ووجوب بقاء الصحافة كـ«سلطة» أساس مهمتها «الرقابة الأخلاقية والسياسية»، ما يضع النظم الديمقراطية امام مسؤوليتها الدستورية والحقوقية والسياسية وحتى الأخلاقية لتجديد ذاتها بحثاً عن الترقي والتقدم للبقاء في مربع الدول الناجحة.
مسلسل «الموت الصحافي» هذا باتت خواتيمه قاب قوسين أو أدنى من النهاية الحتمية. الحيلولة دونه صارت مستحيلة ومحل استعصاء. قبل موقف جريدة «النهار»، توقفت «دار الصياد» العريقة، وسبقتها جريدة «الاتحاد» بعد جريدة صوت الذين لا صوت لهم «السفير». اما الصحف التي تواصل الصدور فتكابد باللحم الحي، وليس من شيء في الأفق ما يوحي بأن الاستمرار مضمون، خصوصاً في ظل انعدام وجود أي «تشريعات انقاذية».
رب قائل ان موت الصحافة الورقية في لبنان سببه الصحف نفسها التي ما عادت تستثمر في المفاهيم ولا في الأشخاص، وما عادت تحترف إطلاق مبدعين يمعنون تمحيصاً وتحليلاً في الوقائع والمقاربات بما يقدم للقارئ جديداً سياسياً أو خبرياً أكثر حضوراً مما تقدمه منصات ووسائل التواصل الاجتماعي. وهذا بعضه أو الكثير من بعضه صحيح. رب قائل أيضاً ان ما حصل وسيحصل لا يستدعي هلعاً في ظل نمو الصحافة الرقمية (الالكترونية).
وهذا صحيح أيضاً لو ان الأخيرة اخذت مساحة وفرضت وجودها كما هو حاصل ومحقق عند الدول المتقدمة. لكن وقائع الأمور تدل على غير ذلك تماماً. فالمشكلة عندنا مزدوجة وتتوزع على اثنين هما: القارئ الذي صار يكتفي باشعارات خبرية من هذا الموقع أو تلك المنصة، وعلى السوق الإعلانية بوصفها مورداً اساسياً لكل الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع والالكتروني. هذه السوق لم تعد تقدّم الا النذر اليسير بسبب الأوضاع الاقتصادية.
في بلد لم تُحل مشاكله الاقتصادية بعد، فإن توقع صمود الإعلام ككل، إنما يندرج في خانة الهذيان والهلوسة، خصوصاً وأن نقابتي الصحافة والمحررين ومعهما وزارة الإعلام تقف عاجزة عن ابتكار واجتراح الحلول. وإلى ان يقضي الله امراً كان مفعولاً، سنبقى نتابع بعجز قاتل زحف الموت نحو الصحافة، وسنبقى ننتقل بين مشهد بوجهين هما بياض الصحافة وسواد ايامها.
عن مجلة الأمن العام العدد 62

العميد منير عقيقي
رئيس تحرير مجلة الامن العام