اختارت المشيئة الإلهية أن تكون الجمعة المباركة هي يوم رحيل القائد والمفكر العروبي الناصري الكبير كمال شاتيلا، وهو العروبي المؤمن الذي أدرك بعمق وسعة أفق تكامل العروبة والإسلام وأطلق شعار "ايمان دون تعصّب ، والتزام دون تحزّب".
واختارت المشيئة الالهية أيضاً ان يكون رحيله في أيام يحتفل فيها لبنان والأمة بعيد المقاومة والتحرير، وقد كان أبو ناصر أحد رواد المقاومة والتحرير والكفاح ضد المشروع الصهيو–استعماري منذ عرفته طالباً قبل ستة عقود.
وأختارت المشيئة الإلهية كذلك ان يكون رحيل هذا القائد المفعم بالأمال رغم الجراح والآلام التي عاشها في أيام تشهد فيها الأمة العربية والإسلامية مصالحات كان كمال شاتيلا من أوائل الداعين لها والساعين لتحقيقها والمتحمّلين لكثير من الظلم بسبب دعواته تلك.
بل واختارت هذه المشيئة الإلهية أن يرحل عنّا كمال شاتيلا وقد بدأت ملامح سقوط المنظومة الفاسدة التي تحكمت بلبنان طويلاً وقد كان الأخ كمال في مقدمة من خاض المعارك على مدى عمره ضدها وقد دفع هو والكثير مع إخوانه ثمناً لشجاعته ولإقدامه في النضال ضدها وضد سياساتها ومشاريعها.
كما اختارت هذه المشيئة الإلهية لرحيل كمال شاتيلا عصراً بدأت تنهار فيه معالم "الامبراطوية الاستعمارية" التي تحدث عنها، وكتب حولها، الكثير الكثير وآخر كتبه كانت عنها، وكان البعض يظّن في كلام الأخ كمال وغيره من العروبيين والتقدميين بعض المبالغة او الشطط أو التفكير الرغبوي، فإذ بالأيام تكشف صحة تلك الرؤى ودقة تلك التحليلات فنرى أمام أعيننا كيف يتراجع الغرب الاستعماري وعلى رأسه الإدارة الأميركية، وكيف يتقدم محور مناهضة هذه الهيمنة انطلاقاً من بطولات المقاومين والمجاهدين في أمتنا التي عمت تداعياتها العالم كله...
منذ أن عرفت كمال شاتيلا رفيقاً في الفكر والعمل القومي العربي في ستينات القرن الماضي، عرفت فيه مناضلاً مقداماً جريئاً في طرح قناعاته ، قادراً على التمييز بين الاختلاف في الموقف والتحليل في مرحلة، وبين التلاقي في الأفكار والرؤى الاستراتيجية ، فكان يُخضع الخلاف العابر لمصلحة الفكر الثابت فيترجم بذلك الشعار الأحب الى قلبه وهو شعار "العروبة الحضارية الجامعة" التي "تصون ولا تبدّد، توحّد ولا تفرّق، تشدّ أزر الصديق، وتردّ كيد العدو"، فيبحث عن المشتركات مع الآخر ليدخل منها الى معالجة نقاط الاختلاف فيما نرى آخرين يدخلون من نقاط الأختلاف الى اشتباكات لا تتوقف مع أصحاب المشتركات.
وكم كان مؤثراً لقائي معه في الدار البيضاء في المغرب عام 1997، أثناء انعقاد دورة المؤتمر القومي العربي، بعد ان كان قد مرّ عليه 13 عاماً من النفي عن حبيبته ومدينته بيروت، فوجدت الرجل رغم انه كان مثقلاً من جراح الأقربين قبل الأبعدين أكثر تمسكاً بقناعاته وحماسة لمنطلقاته في الدفاع عن وحدة الأمة وتحرير فلسطين واستقلال الوطن الكبير وحرية وحقوق الانسان العربي .
ولعل أجمل ما تركه لنا المناضل الكيبر كمال شاتيلا هو اخوانه في مدرسة اتحاد قوى الشعب العامل كبرى مؤسسات المؤتمر الشعبي اللبناني، الذين يمثلون ، حيث يعملون، تلك الروح العروبية الجامعة في زمن الفرقة والتشرذم والمذهبية المريضة، وذلك الإصرار العجيب على مواصلة النضال الذي يزداد توهجاً كلما واجهوا العقبات والصعوبات، والذي ينمو ويتطوّر ويتألق كلما اشتدت التحديات.
الرحمة لكمال شاتيلا (أبي ناصر) الذي بقي وفياً للقائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر والذي أختار له القدر الرحيل في القاهرة التي أحبها كبيروت ،وكانت تستقبله مناضلاً ومحاضراً ورمزاً عروبياً كلما زارها.
وعزاؤنا مشترك مع عائلته الكريمة ورفاقه الاحبة الذين سيبقون مشاعل عروبة ونضال وعطاء لا يغيب.
معن بشور