شهد العالم في السنوات الماضية إعلانات عالمية وإقليمية عن الانتصار على الإرهاب، وتحديداً على «تنظيم الدولة الإسلامية» المعروف بـ«داعش»، لكنّ الأحداث أثبتت أنّها كانت إعلانات استعراضية ظرفية، والأكيد أنّ المواجهة مع التطرّف لا يمكن أن تُحسم في معركة أو جولة، لأنّ هذا المشروع قائم على ركائز تضمن له الاستمرار وتجاوز الهزائم والعودة إلى الخواصر الرخوة من العالم العربي والإسلامي.
يستند بقاء مشروع التطرف إلى قواعد ثلاث:
الأولى: نواة صلبة من القيادات الفكرية والتنظيمية التي تتوارث هذا النهج وتتولى إعادة إنتاجه وتخريج أجيال تواصل بعدها المسيرة.
الركيزة الثانية: حالات الفشل في الدول والمجتمعات والانهيارات الاقتصادية والفوضى الأمنية السائدة.
الاستثمار الدولي والإقليمي في التطرف، وبشكل خاص إتقان المحور الإيراني لتنظيمات الإرهاب من القاعدة إلى «داعش» وما بينهما من مجموعات هامشية.
في لبنان، نحن معرّضون لكلّ هذه العوامل، خاصة مع انفتاح العالم عبر شبكات التواصل بما يضمن استمرارية ضخّ الأفكار والعمل على تجنيد الشبان المعرّضين لكلّ عوامل القهر والظلم الاجتماعي والأمني، وهذا يجعل الفئات شديدة التهميش من المجتمع السني عرضة لتجدّد موجات الانسياق لمغرياتٍ تدمج بين الحصول على التمويل وبين الانتقام من الإقصاء الذي تتعرّض له هذه الفئات، واستثمار المحور الإيراني سابق وله «براءات اختراع».
ما هو الجديد الذي يدفعنا الآن لإثارة هذا النقاش؟
الجديد هو أنّ الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله حاول استثمار «غزوة الطيونة – عين الرمانة» لإرساء معادلة طالما سعى إلى ترسيخها، وهي أنّ محور إيران هو حامي الأقليات وخاصة المسيحيين، وأنّه لولا وقوفه في وجه تنظيم «داعش» لما بقي للمسيحيين أثر في العراق وسوريا ولبنان ، محذِّراً من أنّ الخراب سيطالهم إذا وقفوا في الجهة المقابلة، دافعاً بالمائة ألف مقاتل من الحزب إلى الواجهة، محاولاً إقناع اللبنانيين بأنّ القوات اللبنانية هي «العدو» فاتّخِذوها عدواً، متهماً القوات وأفرقاء 14 آذار بأنهم دعموا التنظيمات الإرهابية، وتآمروا على المسيحيين.
شكّل كلام نصرالله فرصة نموذجية للمجموعات المتطرفة، التي رأت فيه تحفيزاً على التحرّك وفرصة للتوسع، مع ما يعنيه خطابه من انفتاح أبواب الصراع بأبعاده الطائفية والمذهبية، وبتزايد التوقعات بتفسّخ الدولة في المرحلة المقبلة، بينما تبدو مناطق الشمال وخاصة طرابلس وعكار، مساحات خصبة لعملها، نظراً لتفاقم الانفلات الأمني، الذي تشارك فيه وتغذّيه «سرايا المقاومة»، بحيث أصبحت العامل الأكثر إشعالاً للخلافات بين البلدات، كما هو الحال بين فنيدق وعكار العتيقة، وبين العائلات، كما هو حاصل في ببنين ووادي الجاموس وطرابلس، إضافة إلى تزايد حالات الفقر وسهولة الاستقطاب في المناطق الشعبية، والتي تتحوّل مع الوقت إلى أماكن شبه مغلقة تعشّش فيها كلّ أشكال الخروج على القانون.
مؤشرات القلق
في هذا الإطار يمكن رصد بعض المؤشرات المقلقة في طرابلس وعكار تدفع إلى إبداء الحيطة والحذر من تحرّكات نوعية لمجموعات إرهابية تستهدف الأمن والاستقرار، ومنها ما بدأ يظهر في فتح معابر التهريب البشرية عبر الحدود بين لبنان وسوريا شمالاً، وما يعنيه ذلك من مخاطر كبرى.
وهنا لا بدّ من الوقوف عند بعض المؤشرات ذات الدلالة:
المؤشر الأول: كشف الجيش اللبناني شبكةً مسؤولة عن نقل العناصر الإرهابية بين لبنان وسوريا وإلقاء القبض على عدد من أعضائها، ومنهم اثنان من عكار هما: (أ.ع.ع) و (م.غ.م)، وهما إضافة إلى آخرين، شكّلوا شبكة قامت بإدخال وإخراج أعداد من الإرهابيين من سوريا إلى لبنان وبالعكس، وهذا يعني وجود حالة استقرار لدى هذه المجموعات تسمح لها بحرية الحركة، ووجود تمويل يسمح بدفع ثلاثة آلاف دولار للقائم بنقل الأفراد ضمن خطة سَير، تتضمن البعد الأمني وحماية الأشخاص من الوقوع في قبضة القوى الأمنية.
المؤشر الثاني: صدور برقية أمنية عن قوى الأمن الداخلي تمّ تعميمها على المراكز كافة، وجاء فيها الآتي:«ورد اتصال هاتفي من غرفة عمليات المديرية عن وجود معلومات بشأن احتمال قيام أشخاص بوضع موادّ سامة في القهوة أو المشروبات الساخنة التي يحتسيها العناصر من الكيوسكات وأكشاك بيع القهوة المنتشرة على طول الاوتوستراد الساحلي، لذلك يطلب إليكم: التعميم والتنبيه على عناصركم «عدم» احتساء القهوة او المشروبات المذكورة من تلك الاكشاك المنتشرة على الطرقات العامة والاوتوستراد الدولي».
لم تـُشِر البرقية إلى الجهة التي تقف وراء عملية التسميم المحتملة، لكنّ المعلومات تؤكّد أنّ جهات إرهابية تقف وراء خطة تستهدف جميع العاملين في الحقل الأمني، من قوى أمن وجيش، وأنّ الاستهداف لا ينحصر في الطريق الساحلي، بل يستهدف جميع أنواع الانتشار، وخاصة في طرابلس، وهذا يكشف أنّ الجماعات الإرهابية تتحرّك بأفكار غير تقليدية، وتتمتع بمساحة واسعة من التفكير البارد، الذي يتيح لها تنفيذ عمليات نوعية قليلة الكلفة وخطيرة النتائج.
المؤشِّر الثالث: إعلان قوى الأمن الداخلي أنّ شعبة المعلومات ألقت القبض على «أحد إرهابيي تنظيم داعش» بعد كشف تخطيطه «لتفجير مركز ديني في عكار».
المؤشر الرابع: تشهد المناطق القديمة في طرابلس تكاثراً في أعداد الوافدين إليها من جنسيات غير لبنانية، وظهور مجموعات من الرجال والنساء المنقبات تتحرّك بشكل شبه منظم في أسواق طرابلس القديمة، ممن يستأجرون غرفاً في الأحياء الداخلية شبه المغلقة، ويشكلون حالة ارتياب بسبب بعض السلوكيات غير المألوفة، ومما زاد التساؤلات، وكان لافتاً استخدام إحداهن قنبلة مسيِّلة للدموع مصنعة يدوياً لتفريق من ظنّتهم يتعقبونها، وانقضاضها بشكل محترف لمسح هاتف شخص اشتبهت بأنّه قام بتصويرها.
هذه الواقعة حصلت يوم الأربعاء 6 تشرين الأول 2021، وشهدتها محلة «السرايا العتيقة» وسط ذهول من تواجد حينها في تلك النقطة، خاصة بعد إحاطتها بمجموعة أخرى أمّنت إخراجها من المنطقة.
من الأهمية بمكان اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمنع تجمع أي حالات قد تشكل مصدر خطر أمني، من دون الإساءة إلى المقيمين أياً كانت جنسيتهم، وهذا يتيح تجنّب إساءة استخدام العنصر النسائي بشكل سلبي وللإبقاء على احترام المنقبات ومنع استغلال النقاب في أي خرق أمني.
تتصرّف الأجهزة الأمنية في الشمال على أساس أنّها يمكن أن تواجه في أيّ لحظة حالة اشتباك واسعة أو تفجيرات في المواقع الدينية الإسلامية والمسيحية، أو جريمة اعتداء على العسكريين تشبه ما تعرّض له عناصر وضباط الجيش قبيل بدء المعارك مع تنظيم «فتح الإسلام»، لكنّ اللاّفت هو المستوى العالي من وعي المواطنين واليقظة الدائمة عند الجيش، ولعلّ هذا ما أنقذ طرابلس من أحداث ينتظر وقوعها من سيخرج ليقول: «أنظروا ها هو الإرهاب الحقيقي يضرب في المدن السنية، بينما نحن الأبرياء يطلق الجيش النار على مسلّحينا» في الطيونة!