شهدت كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين- مونو، أمسية موسيقية استثنائية وفريدة من نوعها تقام لأول مرة في لبنان، حملت عنوان «أصداء من روسيا». هذا الحدث الثقافي الرفيع، الذي جاء إحياءً للذكرى الثمانين للانتصار في الحرب العالمية الثانية، قدّم للجمهور اللبناني والعربي تجربة فريدة مع روائع الموسيقي الروسي الخالد بيوتر إليتش تشايكوفسكي، مع الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية الوطنية بقيادة أهم قادة الأوركسترا في عصرنا المايسترو ألكسندر سلادكوفسكي ومشاركة عازف التشيلو العالمي سيرغي سلوفاتشيفسكي، بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى في لبنان، المؤلفة الموسيقية هبة القواس، وسعادة سفير روسيا الاتحادية في بيروت، ألكسندر روداكوف.
القواس
افتتاحًا كانت كلمة للقواس جاء فيها:«في زمنٍ تُغلق فيه الحدود، وتضيع فيه اللغات بين جدران التنافر، نأتي اليوم لنفتح بابًا واحدًا، لا يُغلق: باب الموسيقى.
من قلب بيروت، مدينة النار والندى، مدينة الموت المُعافى بالحلم، ننطق لا بصوت السياسة، بل بنبض الإنسان، ونقدّم للعالم لحنًا لا يعرف الانقسام، صوتًا يتجاوز الأصوات، وصلاةً تُرفع من أوتارنا إلى السماء.
من بيروت، مدينة الصمود والقصيدة، من أرض الأرز والنغم، نلتقي اليوم لا في احتفالٍ موسيقيٍّ عابر، بل في لحظة تتجاوز حدود الزمن والجغرافيا، وتلامس جوهر الإنسان. نجتمع اليوم لنُطلق من قلب لبنان رسالةً تتخطّى السياسة والانتماءات، رسالةً لغتها الموسيقى، وروحها الإنسان.
موسيقيون من روسيا ولبنان، جاؤوا لا ليعزفوا فقط، بل ليبْنوا جسورًا من النغم، تعبر فوق الجراح، وتفتح الأبواب المغلقة، وتُعيد للروح الإنسانية نبضها الأصيل.
إنّ انتصار الموسيقى اليوم، هو انتصارٌ للإنسان على القهر، وللجمال على الحرب، وللنور على كل ظلمة.
وها نحن نحتفل، من خلال سمفونياتٍ وقطعٍ خالدة، بانتصارٍ ليس روسيًّا فحسب، بل هو انتصار البشرية بأسرها، انتصار العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ذاك النصر الذي لم يكن احتفالًا عسكريًّا بقدر ما كان ولادةً جديدة للروح الإنسانية، احتفلت به روسيا كما احتفلت به أوروبا، وامتد صداه إلى كل أمة عانت وتعلّمت.
لنعلن من هنا أنّ ما يبقى بعد الدماء هو الفنّ، وأنّ ما يُعيد تشكيل الوعي الجمعي هو الجَمال .في حضرة هذا الحدث، نرفع رؤوسنا لا فقط بفخرٍ وطني، بل بإيمانٍ كونيّ بأنّ الموسيقى هي لغة الخلاص، ومفتاح الوحدة، ونشيد الإنسانية السرمدي.
السفير الروسي
ثم اعتلى السفير الروسي المنصة معبّراً عن امتنانه للكونسرفتوار ورئيسته لإقامة هذا الحدث العظيم، والاحتفال يبوم النصر من بيروت. وقال: «أعجز عن التعبير عن شكري وفرحي بهذه المناسبة، وخصوصاً بعد كلمة الرئيسة القواس التي اختصرت كل الكلام». ورحّب بالمايسترو سلادكوفسكي في بيروت مثمناً مسيرته الموسيقية الكبيرة، وقال: «هذا فخر لنا ولروسيا أن نحتفل بيوم النصر مع قائد أوركسترا كبير هو مصدر اعتزاز لنا ولروسيا».
منذ اللحظة التي اعتلى فيها المايسترو ألكسندر سلادكوفسكي منصة القيادة، شعر الجمهور بهالة من الاحتراف والشغف، وانتقل سحر حضوره العاصف والجارف، وعمق تماهيه المذهل مع الموسيقى إلى الجمهور اللبناني المتلقّي لهذا الحضور بانجذاب كبير. يُعدّ سلادكوفسكي أحد أبرز قادة الأوركسترا في روسيا والعالم، فهو يشغل منصب المدير الفني والقائد الرئيسي لأوركسترا تتارستان الوطنية السيمفونية. مسيرته الفنية حافلة بالإنجازات والتقدير، وقد قاد العديد من الأوركسترات المرموقة في مختلف أنحاء العالم، تاركًا بصمة مميزة في كل أداء. يتميز سلادكوفسكي بقدرته الفريدة على فهم أعماق المؤلفات الموسيقية وإيصالها إلى العازفين والجمهور على حد سواء، وهو ما تجلى بوضوح في قيادته للأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية الوطنية في هذه الأمسية.
واختُتمت الأمسية بتحفة تشايكوفسكي «Overture 1812»، وهي قطعة تحتفي بالانتصار الروسي في حرب عام 1812. هذه «الأوفرتورا» المليئة بالتأثيرات الصوتية القوية، بما في ذلك استخدام المؤثرات الجرسية التي تحاكي دوي المدافع، قُدمت بأداء مذهل من الأوركسترا تحت القيادة الفذة لسلادكوفسكي، حيث تجسدت المشاعر الوطنية والفخر في كل نوتة.
الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية الوطنية، أظهرت في هذه الأمسية مستوى فنيًا رفيعًا والتزامًا مذهلاً تحت تأثير عصا المايسترو سلادكوفسكي . لقد كان الانسجام بين العازفين واضحًا، والتفاعل مع قيادة المايسترو سلسًا ودقيقًا. استطاعت الأوركسترا أن تنقل ببراعة التنوع العاطفي واللحني في مؤلفات تشايكوفسكي، وأن تخلق تجربة استماع غنية ومؤثرة للجمهور. هذه الأمسية تؤكد على الدور الحيوي الذي تلعبه الأوركسترا في إثراء المشهد الثقافي في لبنان وتقديم أعمال كلاسيكية عالمية بمستوى يليق بتاريخ الموسيقى العريق.
كانت أمسية»أصداء روسيا» استثنائية على كل المستويات والمعايير، جمعت بين عبقرية مؤلف موسيقي عظيم، وقيادة مايسترو عالمي ساحر ومذهل وقف الحضور إجلالاً له وصفقوا لأدائه دقائق طويلة. وبين أداء عازف تشيلو مدهش، وتناغم أوركسترا وطنية تسعى دائمًا نحو التميز.
في تلك الليلة، لم تعش بيروت حفلًا، بل خَبِرت ما يشبه احتفالًا كونيًا بالموسيقى، بلغ مستوىً لا يقلّ عن أعظم ما يُقدَّم في قاعات فيينا أو أمستردام أو برلين. لقد سُجِّل هذا الحفل في ذاكرة المدينة، لا كعرضٍ عابر، بل كحقيقةٍ فنيةٍ تنتمي إلى الصفوف الأولى من مشهد الموسيقى الكلاسيكية العالمي.
كانت ليلة احتفت بالموسيقى الكلاسيكية الروسية وجمالها، وتركت في نفوس الحاضرين أثرًا فنيًا عميقًا حملوه في وجدانهم وأسماعهم، محمّلين بعبق هذا الفضاء المحلّق في أقاصي المتعة، شاكرين الكونسرفتوار الوطني ورئيسته على الرقيّ والمستوى العالمي الذي يقدمانه في لبنان... وبحضور مجاني إلى كل محبي الموسيقى حفاظاً على الدور الثقافي المتميز الذي يضطلعان به.