تعاون مثمر بين قنصلية لبنان في جدة ممثلة بالقنصل وليد منقارة وجمعية "تراث طرابلس-لبنان"، واجتماع بنّاء في القنصلية الفرنسية في جدة مع Lisbeth Choquet، يمثلان نقطة انطلاق نحو مشاريع مشتركة مبتكرة وهادفة. فكما التقت أسواق طرابلس وجدة في الماضي عبر قوافل التجارة، فإن مشاريعهما المستقبلية قد تتلاقى في جهود مشتركة للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز روح المواطنة التي تربط الأفراد بماضيهم وحاضرهم، وتخلق بيئة حيوية تدعم التعاون والتفاهم بين الشعوب.
منذ تأسيسها عام 2009، أثبتت جمعية "تراث طرابلس-لبنان" التزامها العميق في إبراز تراث مدينة طرابلس والترويج له وتعزيزه وحمايته للأجيال القادمة. ومن خلال أنشطتها المتنوعة التي تشمل الترميم والتأهيل، وتنظيم المؤتمرات والفعاليات والمعارض، إلى جانب وضع البرامج التعليمية والجولات الميدانية وحملات التوعية، استطاعت الجمعية أن تخلق تأثيرًا ملموسًا في تعزيز الوعي الثقافي وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية في الحفاظ على التراث، كما نجحت في تقديم صورة مشرقة وجميلة عن طرابلس في الخارج.

وإيمانًا منها بضرورة الانفتاح والتواصل مع التجارب العالمية في مجال حفظ التراث للاستفادة منها محليا، لم تقتصر جهودها على لبنان وفرنسا فقط، بل امتدت إلى آفاق جديدة. كان أحدثها زيارة وفد من جمعية "تراث طرابلس-لبنان" إلى مدينة جدة في المملكة العربية السعودية للمشاركة في حدث استثنائي حول تراث طرابلس بتنظيم من قنصل لبنان العام في جدة السيد وليد منقارة، شهد حضورًا كثيفًا ضم دبلوماسيين رفيعي المستوى، بينهم مديرعام وزارة الخارجية السعودية فرع مكة المكرمة السابق الأستاذ جمال بلخيور، وقنصل عام العراق السيد محمد سمير النقشبندي، وقنصل عام الأردن السيد محمد صلاح صبحي حميد، وقنصل عام المغرب عبد الإله اوداداس، وقنصل عام ليبيا عبد الرزاق المنفي، و قنصل عام السودان كمال علي عثمان، وعميد السلك القنصلي قنصل عام فلسطين السفير محمود الاسدي ، وقنصل عام الفلبين السيد أدغار توماس أوكسيليان، وقنصل عام البحرين السيد موسى عبدالله النعيمي، بالإضافة إلى قنصل عام سلطنة عمان السيد سالم بن محمد بن خليفة البوسعيد، وحضور قنصل عام تركيا مصطفى أونال، وقنصل عام روسيا يوسف اباكاروف، وقنصل عام كازاخستان روسلان كوسبانوف، وقنصل عام الباكستان خالد مجيد والقنصل الإيراني ابو الفضل مرادي. كما حضره حشد كبير من الجالية اللبنانية المعنيين بالهوية الثقافية وقضايا التراث والمواطنة، وعدد من المثقفين والمعماريين ورجال الأعمال والمستثمرين المهتمين بمجالات التراث والمشاريع الاستثمارية والتنموية. وضم الوفد رئيسة الجمعية في باريس جمانة شهال تدمري، ورئيس الجمعية في طرابلس عبد المنعم مرحبا إلى جانب رئيسة الجمعية في جدة ميرنا حدارة ليكونوا في قلب هذا الحدث الفريد الذي يعكس مدى أهمية التعاون الدولي في الحفاظ على التراث الثقافي الغني والمتنوع والفريد لمدينة طرابلس.
ولكن بعيدًا عن الحدث الرسمي، حملت جدة مفاجآت غير متوقعة لوفد الجمعية. فقد نظم القنصل العام في جدة، السيد وليد منقارة، وسفيرة التراث السعودي، السيدة عبير أبو سليمان، وهي أول مرشدة سياحية سعودية رائدة في هذا المجال ومؤسسة مشاركة في نادي الإرشاد السياحي، جولة استكشافية إلى قلب جدة التاريخية، التي تُعرف محليًا بـ"البلد". هنا، بين الأزقة العتيقة والأسواق العريقة، والمباني الهندسية الفريدة، تداخلت جدة مع طرابلس فكانت المفاجأة ! كأن التاريخ يحكي قصتين متوازيتين، بين مدينتين تحملان إرثًا ثقافيًا ينبض بالحكايا والحياة.
مفاجآت في قلب "البلد"
منذ اللحظة الأولى في "البلد"، قلب جدة التاريخي، شعر وفد جمعية "تراث طرابلس-لبنان" وكأنهم قد سافروا عبر الزمن، ليجدوا أنفسهم في شوارع مدينة طرابلس القديمة. الأزقة الضيقة المتعرجة بين الأحياء التي تفضي إلى الأسواق والخانات والأبواب كانت مفتاحًا لاكتشاف تشابه عميق بين جدة وطرابلس.
في السوق الكبير في جدة، الذي يعد من أبرز أسواق المدينة ويتخصص في بيع الأقمشة المختلفة، تتناغم الألوان والمنسوجات في مشهد يذكر بزخارف وتجارة خان الخياطين في طرابلس. فكل من الخان والسوق يعكسان تاريخًا عريقًا وحرفية متميزة في صناعة النسيج، مما يعزز التشابه بين المدينتين في اهتماماتهما التجارية المشتركة، حيث تبرز روح الصناعة والحرف التقليدية كقيمة أساسية في الحفاظ على الهوية الثقافية والتجارية للمدينتين.
في الحارات القديمة في "البلد"، مثل حارة الشام، حيث البيوت التقليدية المزخرفة تروي قصة من الماضي، تتقاطع الذكريات مع أحياء طرابلس العتيقة، حيث يلتقي التراث المعماري بروح المدينة التاريخية. تتشابه هذه الحارات مع أحياء طرابلس التي تتمتع بجو مشابه، كحارة الميناء والحمام في قلب المدينة. كما في سوق العطارين في طرابلس، حيث تختلط روائح البهارات والأعشاب، في "البلد" بجدة تتناغم الأصوات والروائح لتغمر الزوار في عالم من التاريخ والتراث.
ومع تجوالهم في "البلد"، لم يكن غريبًا أن يتأمل وفد الجمعية الطراز المعماري المذهل في "بيت نصيف" بجدة الذي يعود إلى عام 1872. هذا البيت التاريخي، الذي يمثل أحد أروع الأمثلة على النمط المعماري في جدة، ذكرهم بقصر نوفل في طرابلس الذي يجسد فخامة البناء التقليدي ويعكس فنونًا وثقافات متعددة تعكس الطابع التراثي للمدينة.
أما في المساجد، فإن الزيارة إلى مسجد الشافعي في "حارة المظلوم" بجدة تركت انطباعًا عميقًا لدى الوفد، إذ تذكرهم بتصاميم مساجد طرابلس التقليدية، مثل المسجد المنصوري الكبير. هناك تشابه كبير بين المساجد في المدينتين في ما يخص الفن المعماري الفريد، من القبب والأروقة إلى النقوش والزخارف التي تزين جدرانها، مما يعكس الروحانية والأصالة التي تجمع بين مدينتي جدة وطرابلس.
وفيما يتعلق بالأسوار التاريخية، فإن سور جدة الذي بُني في عهد السلطان المملوكي قنصوه الغوري، رغم تآكله عبر الزمن، يذكرنا بقلعة طرابلس، هذا الحصن المتين الذي طوره المماليك والذي لا يزال إلى اليوم شامخًا بحضوره وتاريخه واشرافه على المدينة. ورغم أن أجزاء كبيرة من سور جدة قد أزيلت مع مرور الوقت، لا يزال يمثل رمزًا تاريخيًا مهمًا يحمل في طياته قصة حماية المدينة من التحديات والأعداء. أما في طرابلس، فقد كانت المدينة تتمتع بأبواب تاريخية كانت بمثابة خطوط دفاع حصينة. للأسف، تم إزالة هذه الأبواب التي بنيت على يد المماليك، لكن أسماءها ما زالت تُستخدم حتى اليوم، مثل باب الحديد وباب الرمل وباب الذهب، وتُذكر يوميًا، مما يعد دليلاً على وجودها الراسخ في ذاكرة الشعب. فكل من سور جدة وأبواب طرابلس يمثلان شاهدين على عراقة المدينة وتاريخها الغني، وهما يعكسان التزام المدينتين بالحفاظ على هويتهما الثقافية والتاريخية.
أما الخانات الشهيرة في جدة، مثل خان الهنود وخان القصبة وخان العطارين، فتمثل أيضًا شهادة على تاريخ التجارة والحركة الاقتصادية التي شهدتها المدينة. لا تختلف هذه الخانات عن خانات طرابلس، مثل خان الصابون وخان المصريين وخان العسكر، حيث كانت تلك الخانات في طرابلس تعتبر محطات مهمة لتبادل البضائع والسلع، تمامًا كما كانت خانات جدة على طول البحر الأحمر مركزًا لتلاقي الثقافات والتجار.
هذه اللمحات التاريخية والمعمارية التي تبرزها جدة وطرابلس تمثل جسرًا ثقافيًا بين المدينتين، حيث تجتمع في كل زاوية من "البلد" في جدة تفاصيل تجسد روح طرابلس القديمة. روح التجارة، الثقافة، والتاريخ الذي يربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، وبين الشرق والغرب، ليظل التراث المشترك في الحارات والأسواق والخانات والمساجد شاهدًا على عراقة المدينتين وتاريخهما الغني.
رؤية 2030: عندما يلتقي الماضي بالمستقبل
لكن ما أثار إعجاب الجمعية ليس فقط التاريخ العريق لجدة، بل الرؤية الطموحة للمملكة في الحفاظ عليه. ضمن إطار رؤية السعودية 2030، تشهد "البلد" مشروعًا ضخمًا لإعادة تأهيلها وترميمها، لتصبح وجهة سياحية عالمية. وخلال الجولة، زار الوفد بيت نصيف، أحد المعالم الأثرية العريقة، وجامع الشافعي، أقدم مساجد جدة، وسوق العلوي الشهير، إضافة إلى الأزقة التي تحمل أسماء تجار وحرفيي الماضي مثل زقاق العطارة وزقاق الليات.
وكما تسعى طرابلس للحفاظ على تراثها، فإن جدة تقدم نموذجًا يحتذى به في استثمار التراث بطرق حديثة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة. هذه الرؤية أعطت وفد الجمعية دفعة من الإلهام، وأكدت لهم أن الحفاظ على التراث ليس مجرد عملية ترميم، بل مشروع تنموي متكامل يمكن أن يضع المدن التاريخية على خارطة السياحة العالمية.
التراث كجسر بين الشعوب
لم تكن زيارة وفد "تراث طرابلس-لبنان" إلى جدة مجرد رحلة عابرة، بل كانت لقاءً ثقافيًا بين مدينتين تتشاركان في روحهما وتراثهما. وبينما تسعى جدة إلى ترميم ذاكرتها ضمن رؤية 2030، تناضل طرابلس للحفاظ على نسيجها المعماري الفريد وسط تحديات كبيرة في ظل عمليات التعدي العشوائية على التراث، وكان آخرها عمليات الهدم المجحفة بحق مباني المدينة القديمة التي طالت مبنى المير في شارع مستشفى شاهين ومبنى شارع المطران.
هذه التجربة أكدت أن التراث ليس فقط ماضيًا يُحفظ، بل هو جسر يربط بين الشعوب، وحافز للإبداع والاستدامة. وهو أيضًا أداة فعّالة في الحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز روح المواطنة. فالتراث يبني الوعي الجماعي ويقوي الرابط الاجتماعي بين الأفراد، مما يساهم في تعزيز الانتماء للمجتمع ورفع الوعي بأهمية المحافظة على الإرث الثقافي، الأمر الذي يعكس التزام الأجيال الحالية بمسؤولياتها تجاه التاريخ والثقافة.
وتؤكد التجربة السعودية ورؤية 2030، والأعمال الترميمية الجارية حاليًا، أن التراث لا يقتصر على الحفاظ على المعالم المادية فحسب، بل هو أيضًا أداة لبناء الوعي الجماعي وتعزيز الانتماء إلى تاريخ طويل من العراقة والتمسك بالثقافة. من خلال الحفاظ على التراث، يتمكن الأفراد من فهم جذورهم وتاريخهم، مما يعزز الرابط الاجتماعي بينهم وبين مجتمعهم. وبذلك، يصبح الاهتمام بالتراث وسيلة لتعزيز القيم المجتمعية، وتشجيع روح التعاون بين الأفراد، خصوصًا في ظل التحديات والظروف الحديثة.
هل نرى في المستقبل شراكة بين طرابلس وجدة في إعادة إحياء كنوزهما التاريخية ؟ هذا ما نطمح إليه، حيث يمكن أن تثمر هذه الشراكة في مشروعات مشتركة تعزز من الحفاظ على الهوية الثقافية لكلا المدينتين وتساهم في بناء بيئة تتسم بالتناغم والتفاهم بين الشعوب.
بقلم
د. جمانة شهال تدمري
رءيسة جمعية تراث طرابلس لبنان