29 آذار 2024 12:49ص الإقتصاد والأمن متوازيان

حجم الخط
لا يمكن بناء اقتصاد سليم من دون أمن وهذه العلاقة ليست فقط مبدئية بل واقعية، اذ أن الأمن هو الإطار الذي يسمح للاقتصاد بالنمو ضمنه. من ناحية أخرى الاقتصاد السليم يقوي الأمن، اذ يؤمن التمويل المناسب والكافي لتطوير القوى الأمنية والعسكرية من ناحية الأجور والمنافع كما من ناحية المعدات والحاجات المادية والتجهيزية. لا شك أن لبنان هو أحد الأمثلة المهمة لتعثر النمو الاقتصادي بسبب الأمن على الحدود أو داخليا. لذا تجمعت كل العوامل المتنوعة لتخفض حجم الاقتصاد من 55 مليار دولار في 2019 الى حوالي 20 مليار اليوم. هذه خسائر كبرى لا يمكن تعويضها بسرعة وسهولة، وبالتالي يتأخر قطار التقدم اللبناني مقارنة بالدول الأخرى التي ليس لها مشاكل أمنية حادة مماثلة. كل المحاولات لتنشيط الاقتصاد اللبناني وتحقيق النمو ستفشل اذا لم يتأمن الأمن لحماية الاقتصاد والأسواق وتأمين الأجواء العامة التي تسمح بالانتاج والاستهلاك والاستيراد والتصدير وغيرها من النشاطات. ترابط الأمن بالاقتصاد هو في غاية الأهمية وربما لم تغطّه بعد الدراسات العلمية بالشكل الكافي العام والتفصيلي.
تفاقمت مؤخرا المشاكل الأمنية الاقليمية والدولية مع حربي أوكرانيا وغزة حيث الخسائر كبيرة والمعالجات ليست بالمستوى المطلوب. يضاف اليها مشاكل اقتصادية حادة نابعة من الأمن ومن سياسات أخرى أنتجت جميعها التضخم العالمي وتعثر سلاسل الامداد وسوء الاستقرار الذي يؤثر سلبا على الاستثمارات. لم تنجح العقوبات ومختلف التمنيات والقرارات والاجتماعات في تخفيف حجم العنف وتراكم الخسائر البشرية والمادية في الحربين الكبيرتين. بالرغم من كل العقوبات المفروضة غربيا على روسيا مثلا، ما زالت صادراتها النفطية تباع بشكل أو آخر في الأسواق الغربية بسبب الحاجة اليها كما بسبب نجاح بعض التجار في تحقيق أرباح هائلة تشجعهم على الاستمرار في خرق قوانين بلادهم.
اذا أضفنا التطور التكنولوجي الى التحديات السابقة تصبح الأمور معقدة أكثر. لهذا التطور ايجابيات لا حدود لها، لكن له أيضا سلبيات اذ سهّل عمل الارهابيين وقيامهم بالأعمال غير الشرعية كما بالاجرام الاقتصادي وغيره من الشواذات والنشاطات المخلة بالأمن. كل هذه الأمور مجتمعة سهلت عودة التطرف العرقي والسياسي الى قيادات العديد من الدول، مستفيدة من المواضيع الأمنية لتفرض سياساتها المعادية للحريات والديموقراطية وحقوق الأقليات والمهاجرين وحتى حقوق المرأة والأطفال. أجواء عامة سلبية تظهر نتائجها أكثر فأكثر في الانتخابات التشريعية والرئاسية في دول حساسة على صعيد الأمن العالمي.
هنالك تغيرات اقتصادية تساعد على الشعور بعدم الاستقرار لأنها لا تريح قوى نافذة بل تجعلها تقلق على مستقبلها ضمن قواعد الاقتصاد العالمي:
أولا: لن تكون هذه السنة سنة استقرار على ما تشير اليه كل المعلومات والتنبؤات والوقائع. تتخبط الدول الصناعية في نموها وهذا يظهر جلياً في التردد القائم بشأن السياسات الاقتصادية. فالمصارف المركزية الأساسية حائرة بشأن سياسات الفوائد لديها، ومن المرجح أن لا تخفض الفوائد هذه السنة مما يؤثر سلبا على النمو والبطالة. أما السياسات المالية، فالصراعات القائمة بشأن الموازنات تؤكد على عدم توافر كل ما تحتاج اليه الشعوب في ظل الحروب القائمة وتراكم التحديات المعيشية منذ الكورونا. ما ظهر مثلا من اعتراضات للمزارعين الأوروبيين خلال الأشهر الماضية يشير الى صعوبة الأوضاع المعيشية حتى في أغنى الدول.
أما أوضاع الدول النامية فليست جيدة كما أن ديونها الخارجية عالية بل تراكمت منذ الكورونا وضرورة الاقتراض لمواجهتها. بلغت الديون الخارجية للدول النامية 89 مليار دولار في 2022 ومن المتوقع أن ترتفع 40% حتى آخر هذه السنة تبعا للبنك الدولي. هذا يعني انه سيكون هنالك استحالة لخدمة هذه الديون والقيام بالواجبات المعيشية العامة العديدة. هنالك دول أفريقية كغانا وزامبيا أعلنت افلاسها ودول أخرى كأثيوبيا يمكن أن تفلس قريبا.
هنالك دول أخرى تعاني من الديون كالأرجنتين التي انتجت ادارة جديدة تظهر أنها متعثرة جدا في مهماتها. هنالك أيضا باكستان التي تتخبط سياسيا وديموقراطيا علما أن مصادر المشكلة اقتصادية. عدم معالجة مشكلة الديون الخارجية في كل الدول سيؤدي حتما الى مزيد من الهجرة غير الشرعية والمثال الأفضل هو ما يحصل في منطقتنا حيث تخاطر العائلات بالموت عبر المتوسط لترك المنطقة مهما يكلف الأمر. هنالك مشكلة مهاجرين مماثلة بين فرنسا وبريطانيا حيث تستمر المخاطرة عبر البحر بالرغم من كل التهديدات والوسائل المادية والقانونية المعرقلة.
ثانيا: ينتقل الثقل الاقتصادي العالمي تدريجيا وبخطى ثابتة من الولايات المتحدة ومجموعة الوحدة الأوروبية الى شرق آسيا أي الى الصين والهند. في 2050، تشير التوقعات والدراسات الى أن القرار الاقتصادي الفاعل والحاسم وبالتالي السياسي سيكون مصدره بين الدولتين الأسيويَّتين الرئيسيتين أو معهما. أما الاستفادة من التطور التكنولوجي الكبير أي من الذكاء الاصطناعي وكل ما يرتبط به سيكون من حصة المتعلمين وحتى السيدات مما سينعكس سلبا على فجوة الدخل في المجتمعات. ستغير التكنولوجيا الجديدة طرق النجاح وستجعل سباق التقدم أصعب وأسرع ومن يكون جاهزا أكثر يفوز بالكأس الاقتصادية.
ثالثا: في معظم الدول، من المرجح أن يكون القرار السياسي موجودا مع مجموعة قيادات متطرفة أقل عددا أو حتى مع أشخاص قلائل يمارسون السلطة بقوة وتشدد لضبط الأمن مما يؤدي الى اضعاف الحريات ولاحقا تعثر الاقتصادات. تشير التوقعات للانتخابات القادمة في أوروبا والولايات المتحدة الى ارتفاع حظوظ الأحزاب الوطنية والمتطرفة للفوز مما سينعكس سلبا على الاقتصاد العالمي ويوسع الفجوة أكثر ضد الدول النامية، مما يعزز الهجرة غير الشرعية حتى لو ارتفعت تكلفتها. من السهل رؤية الفجوة السياسية الحادة العالمية وكأنها أحزاب واحدة ممتدة دولياً حيث التشابه كبير في العقائد والخطاب وطرق العمل. نعيش فعلاً في ظروف صعبة.