بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 نيسان 2021 08:24ص البطريرك الراعي «الشاهد الملك» في محكمة التاريخ

حجم الخط
يواجه اللبنانيون أزمة حادة ومعقدة، وهي من دون شك من صنع أيديهم، ولا يمكن أن يتبرأوا من مسؤوليتهم عن الأزمة المالية والنقدية، التي باتت تهدد لقمة عيشهم، حيث يدرك الجميع، ان الأزمة هي نتيجة مباشرة للخيارات السياسية التي اعتمدوها بعد انتهاء الحرب، ومنذ بداية جمهورية الطائف من خلال تنصيبهم لأمراء الحرب، وحيتان المال و«مافيات» الاحتكار من طبقة التجار ورجال الأعمال كطبقة حاكمة ومسيطرة على السلطة والاقتصاد الوطني بكل متفرعاته.

في مقاربة تحليلية تستند إلى مراجعة دقيقة لكل ما جرى في لبنان منذ 1991 وصولاً إلى عام 2021 لا بد من الاستنتاج بأن الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة، ما هي سوى نتيجة طبيعية للأزمة السياسية العميقة المتواصلة منذ ثلاثة عقود.

عانى اللبنانيون خلال ثلاثة عقود من سوء ادارة هذه الطبقة السياسية الفاسدة من امراء الحرب، ومن استعانوا بهم من أزلام وأتباع، وجددوا لهم البيعة تلو الأخرى، وذلك بالرغم من حالة الفساد الكلي والشامل، والتي طغت على السطح، ولم تعد سراً على أحد خلال العقدين الاخيرين على الاقل.

وعدت الطبقة السياسية مراراً وتكراراً بإعادة بناء الدولة بكامل مؤسساتها وفقاً للقواعد الاصلاحية الصحيحة التي نص عليها اتفاق الطائف، ولكنهم حنثوا بكل وعودهم، لا بل ذهبوا في الاتجاه المعاكس، حيث عملوا على تعميق الانقسامات الطائفية تحت شعار الدفاع عن مصالح وحقوق طوائفهم، بدل بناء المؤسسات الوطنية والرقابية الضامنة والحامية لحقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم أو تبعيتهم السياسية أو الحزبية او المناطقية.

من المؤسف ان السياسيين قد سخروا كل المؤسسات والوزارات والمجالس والصناديق لخدمة مشاريعهم الخاصة ولجمع ثروات طائلة من الاموال العامة والتلزيمات والصفقات على حساب مصلحة ولقمة عيش المواطنين ورفاههم. وترتفع الستارة في عهد الاصلاح والتغيير و«الابراء المستحيل» عن مشهد مقزز، وهو اشبه بالكابوس بالنسبة لجميع اللبنانيين، وذلك باعلان افلاس المصارف التي بدتت مدخراتهم في سندات للدولة تراكمت على عقود، لتمويل المصارفات المضخمة في الموازنة، والتي سرقتها حسابات اصحاب السلطة، فيما ذهب ما يقارب ثلثها إلى حسابات اصحاب المصارف وبعض الأثرياء خارج لبنان. وتحولت هذه العملية لتهريب اموال السياسيين واصحاب البنوك وطبقة الاثرياء إلى الخارج إلى جريمة باتت تعرف شعبياً «بالأموال المنهوبة» والتي تكررت محاولات التغطية عليها من خلال تلكؤ السلطتين السياسية والمالية عن القيام بأية خطوات لحماية ما تبقى من مدخرات الناس او الاقتصاص من الفاسدين والمسؤولين عن تبذير وسرقة مدخرات معظم اللبنانيين. واستكملت الجريمة من خلال صرف الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان على دعم بعض السلع والاستمرار في دعم السرقات الموصوفة في كهرباء لبنان ووزارة الطاقة، والتي يسيطر عليها منذ اكثر من عقد التيار الوطني الحر وبشخص جبران باسيل وأزلامه من المستشارين. اما عن المحروقات وبقية السلع الضرورية فقد استمرت الممرات الحدودية مفتوحة امام تهريبها إلى سوريا، وهي عملية مستمرة منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، والتي رافقتها عملية «شفط» للدولارات النقدية من السوق اللبنانية، والتي ادت في نهاية المطاف مع جشع التجار إلى انهيار قيمة النقد الوطني ووضع اكثرية الشعب اللبناني تحت خط الفقر.

احتراماً لمنطق التاريخ والحقيقة لا بد من التذكير بأن الوصاية السورية هي من بدأت بانتهاك الطائف على كل المستويات سواء من خلال تشكيل السلطة واختيارهم للاشخاص ودعمهم لقوى سياسية محددة، بما في ذلك حصر شرعية السلاح والمقاومة بحزب الله دون سواه من المقاومين الوطنيين من الاحزاب الأخرى. وكان للسوري الدور الاساسي لاحتفاظ حزب الله بسلاحه بعد التحرير عام 2000، وذلك خدمة لمشروعه بالمشاركة مع ايران، والذي بات يُعرف بمحور المقاومة والممانعة.

كان يمكن تفادي الاستسلام لمشروع الدويلة، بعد الخروج السوري من لبنان، لكن حصول الحزب على غطاء مسيحي من خلال توقيع اتفاق مار مخايل وبتشجيع سوري، لقاء ضمانة وصول العماد عون إلى رئاسة الجمهورية، ليبدأ من خلال ذلك تدحرج سلطة الدولة ومؤسساتها نحو الهاوية، ولتنتهي البلاد على ابواب جهنم، وفق توصيف الرئيس عون نفسه.

سارت الامور خلال فترة الوصاية السورية، ومنذ هيمنة منطق الدويلة على لبنان، منذ عودة الحزب من حرب 2006 واعلانه «انتصاره الالهي» مع ما تحقق له من سلطان نتيجة مؤتمر الدوحة، وبعد عملية الترويض التي نفذها ضد القوى السياسية المناوئة في 7 ايار 2008، تماماً عكس ما أراده واضعو اتفاق الطائف، من اصلاحات في الدولة، وخصوصاً لجهة الوصول إلى دولة علمانية من خلال الخروج من الدوائر الانتخابية الطائفية إلى الدعوة لاجراء الانتخابات على مستوى المحافظات بقصد تشكيل لوائح وتيارات سياسية ضمن مجموعات اسلامية – مسيحية، ولكن مصالح السوريين وحزب الله وحلفائه بعد الخروج السوري قد دفعتهم لاعتماد قانون انتخاب يعيد الدائرة الصغرى، ومن ثم لنذهب إلى قانون الصوت التفضيلي وبما يحقق العودة إلى كتل مذهبية وطائفية تقود البلاد عكس مسار الاصلاح الذي نص عليه اتفاق الطائف. أدى هذا القانون إلى اكثرية مسيحية تطالب بحقوق المسيحيين من قبل كتلة التيار الوطني الحر، والتي أدى اصطفافها السياسي في خط محور المقاومة والممانعة إلى فرض مراعاة مصالح ايران على حساب مصالح الدول العربية وخصوصاً الخليجية، والى عزلة لبنان بسبب التدابير المتخذة من الدول الغربية للتضييق على حزب الله بعد تصنيفه «منظمة ارهابية» والعمل على عزله سياسياً ومالياً. وتسببت هذه التدابير والانحياز للموقف الايراني من قبل العهد ووزير خارجيته باسيل بعزلة لبنان عربياً، وهذا ما سرّع عملية السقوط المالي والاقتصادي، والى تعميق الأزمة السياسية، والتسبب بأزمات تشكيل الحكومات المتلاحقة منذ نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، والتي تحولت الآن في عهد عون إلى مهمة شبه مستحيلة.

في الواقع، لقد تسبب سوء اداء العهد وتياره وتحالفه مع حزب الله بإضعاف الدولة إلى حد تحويلها إلى دولة فاشلة، بكل المعايير المعتمدة للدول الفاشلة. وجاء انفجار المرفأ بعد تفجر الأزمة السياسية والاقتصادية ليظهر مدى فشل القائمين على السلطة، بأدنى مسؤولياتهم التي يفرضها واجبهم الدستوري والوطني والانساني، والذي تعكسه بصورة واضحة لا لبس فيها، تقاعسهم اولاً في اتخاذ تدابير الأمان منعاً لتفجير المرفأ ومقتل ما يزيد على 200 لبناني وتهديم ما يقارب ثلث بيروت، وثانياً في اجراء تحقيق قضائي شفّاف يحدد المسؤوليات الفعلية عن هذه الجريمة الكبرى.

لن ينتظر اللبنانيون من قاض او محكمة الانتصار لهم والاقتصاص من القيادات السياسية التي تسببت اولاً بإفقارهم وتجويعهم، وثانياً بانفجار مدينتهم وبيوتهم على رؤوسهم، فالجريمتان ترتكبان من قبل قوى سياسية فاسدة، وقد اثبت التاريخ بأنه يبقى المحكمة الفضلى لهذا النوع من الجرائم.

في النهاية، نترك للتاريخ ان يحدد الحكم النهائي على اداء ومسؤولية العماد عون في ممارسته للسلطة كرئيس للحكومة الانتقالية او كرئيس للجمهورية، وفي عهد تقدمت فيه سلطة وارادة الدويلة على سلطة ودستور جمهورية لبنان الكبير.

وسيبقى كلام البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وعظاته في قداديس يوم الأحد «الشاهد الملك» في المحاكمة التاريخية المنتظرة، والتي ستبدأ في خطواتها الاولى بالعقوبات الاميركية اولاً، والأوروبية المرتقبة قريباً ضد المعرقلين لتشكيل الحكومة الاصلاحية من رجالات العهد ومستشاريه الرئيسيين.