بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 نيسان 2022 08:08ص الحرب على أوكرانيا والرقص مع الدب الروسي

حجم الخط
يُشكّل الهجوم الروسي الواسع على أوكرانيا رفضاً واضحاً للنظام الأوروبي الذي نشأ في نهاية الحرب الباردة. وتستدعي هذه الحرب ونتائجها مراقبة ودراسة ردّ فعل أوروبا والولايات المتحدة على مستقبل علاقاتها مع روسيا على ضوء رفض هذه الأخيرة للنموذج الأوروبي الاتحادي وللمبادئ التي يعتمدها في تعامله مع القوى الدولية الأخرى، وخصوصاً مع روسيا التي ما زال يرى فيها مصدر التهديد الأساسي لأمن القارة الأوروبية، وللعالم الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.

يمكن من خلال إجراء تقييم سياسي مستقل لمواقف الدول الهامة غير الغربية، الخروج باستنتاج واضح يؤشر حول عدم رضى أو قبول معظم هذه الدول عن النظام الأوروبي الذي توسع سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على حساب القوى الأخرى، وهذا ما دفع كُلاًّ من البرازيل والصين والهند وجنوب افريقيا إلى رفض المشاركة في نظام العقوبات القاسية الذي فرضته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد روسيا، كما أنهم رفضوا التصويت على القرار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الهجوم الروسي ضد اوكرانيا، وكان اللافت في الأمر ان  هذه الدول قد اعتبرت بأن الحرب في اوكرانيا هي مشكلة أوروبية، وبأنه لا بدّ من البحث عن حل لها ضمن النظام الأوروبي الإقليمي، والذي يفترض تطبيق قواعد وأعراف، تختلف عن تلك المطبقة على الصعيد الدولي العام.

شكّل احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 وضمها رسمياً للاتحاد الروسي، إنذاراً للاتحاد الأوروبي بأن هناك مشاكل سياسية وجغرافية قديمة وحديثة بين الدول الأوروبية المتجاورة، وبعضها موروث من فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والغرب الرأسمالي - الليبرالي، وبأنه لا بدّ من البحث عن حلول أوروبية لها، من أجل احتواء نشوء نزاعات عسكرية في مناطق عديدة من القارة الأوروبية أو على حدودها المباشرة.

حدثت الأزمة الأوروبية الأولى في مطلع تسعينيات القرن الماضي عندما بدأ الاتحاد اليوغسلافي بالتفكك، وشكلت الحرب على البوسنة وكرواتيا مشهداً دامياً، انقسمت أوروبا حوله بين روسيا الداعمة لصربيا والغرب الداعم لاستقلال البوسنة وكرواتيا، وبدأت ترسم معالم إمكانية نشأة أزمات أخرى بين روسيا والغرب سواء باتجاه دول البلطيق الثلاث أو باتجاه جورجيا وأوكرانيا، وذلك انطلاقاً من شعور روسيا بأن الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي يسعيان لتطويقها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً،دون اعتبار أي اعتبار لمتطلبات الأمن الإستراتيجي الروسي.

يشكل النظام الأروبي  نظاماً متطوراً من خلال التفاعل المفتوح بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ويشمل ذلك الشؤون الداخلية للدول بالإضافة إلى التنسيق والتكامل الأمني ضمن سياسة الانفتاح والشفافية التي تنص عليها قوانين الاتحاد، فالنظام الأمني داخل الاتحاد لا يستند إلى قاعدة موازين القوى بين الدول، ولا يرتكز على الحفاظ لمبدأ السيادة لكل دولة، كما انه لا يفصل بين المسائل الداخلية والعلاقات الخارجية للدول. وتنص قوانين الاتحاد على رفض كلّي لحل الخلافات بين دوله من خلال استعمال القوة، ويدعو إلى مزيد من الترابط والتعاون بين الدول الأعضاء.

لم يلجأ الاتحاد إلى الممارسات التي اعتمدت في القارة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، سواء لجهة خلق دول جديدة، أو تغيير حدود الدول. من هنا يمكن القول أن روساء دول الاتحاد قد حرّموا على أنفسم التلاعب بالخارطة السياسية القائمة، لا بل يمكن الاستنتاج بأنهم قد استعاضوا عن لعبة الخرائط التي اعتادتها أوروبا في القرون السابقة بتعزيز الترابط والتعاون الاقتصادي وتوحيد النقد، وذلك في محاولة جادة وفاعلة لتغليب الانصهار الاقتصادي على الانقسامات الجغرافية والقومية.

كان احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم وضمها للاتحاد الروسي بمثابة إعلان رفض واضح للنظام الأوروبي القائم، وتشكل هذه العملية التي اعتمدها فلاديمير بوتين تناقضاً كلياً مع التوجه السوفياتي الذي ساد في عام 1989، عندما سعى قادة الاتحاد لاعتماد فلسفة النموذج الأوروبي من أجل الحفاظ على وحدة الدولة ومنع تفكفكها من خلال تطوير صيغة النظام من الوحدة الجامدة إلى مزيد من التكامل الاقتصادي والتكافل والتضامن بين جمهوريات الاتحاد، وبالتالي وقف النزعة الانفصالية السائدة بينها. من هذا المنطلق توجه القائد السوفياتي ميخائيل غورباتشيف نحو اعتماد فكر «ما بعد الحداثة» المعتمد أوروبياً، ووقع اتفاقية باريس، والتي تدعو إلى تبني فكرة تحويل القارة الأوروبية إلى «بيت جامع». وكان من ثمار هذا التوجه السوفياتي قبول موسكو بتوحيد الدولتين الالمانيَّتين. ولكن سقطت كل محاولات غورباتشيف لإنقاذ الاتحاد السوفياتي، لتعتمد روسيا في عهد بوتين لاحقاً من جديد مبدأ السيادة بمعناه الضيق، أي أن يبقى هذا الأمر حكراً على الدول الكبرى كروسيا، والولايات المتحدة وروسيا والهند.

السؤال الذي لا بدّ من طرحه الآن: ماذا يمكن لاوروبا ان تفعل لمواجهة رفض روسيا للنظام الأوروبي القائم بعد انتهاء الحرب الباردة؟ وما يمكن ان تفعله أوروبا لمواجهة هذا الهجوم على نظامها وقوانينها، وحتى شعوبها في الاختيار؟

في الواقع تبدو الخيارات جداً محدودة في عددها ومفاعليها أمام أوروبا في مواجهة الرفض الروسي لقبول الواقع الأوروبي السياسي والعسكري الذي نجح في ضم كل الدول الأوروبية إلى أعضاء في الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو السابقين.دفع الواقع الجديد روسيا بقيادة بوتين للشعور بحالة من العزلة، وهذا ما دفع بوتين إلى استشعار الخطر من حصول تطورات داخل الاتحاد الروسي تطيح بحكمه، بعد ظهور عدم قدرته على منافسة النظام الأوروبي القائم. وكان خروشوف قد سبقه في مواجهة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة إلى مصارحة زملائه بأنه لن يستطيع تعديل الخلل القائم مع الغرب إلا من خلال القيام بعمل خارجي، فكانت أزمة الصواريخ الكوبية، والتي يمكن مقارنتها اليوم بالهجوم الروسي لاحتلال أوكرانيا كخطوة أساسية على طريق تحدي النظام الأوروبي المتوسع شرقاً، والذي يرى فيه بوتين بأنه بات يُشكّل تهديداً خطيراً لأمن روسيا ولمصالحها الاستراتيجية، ولجهودها لاسترجاع موقعها كقوة عظمى.

تحاول أوروبا منذ أشهر عديدة أي منذ بداية الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا أن تجد وسيلة للضغط على روسيا لإقناعها بتغيير سياستها تجاه جارتها، وبالتالي حماية كييف من الغزو الروسي، وحماية أراضي اوكرانيا من الاحتلال الروسي على غرار ما حل في شبه جزيرة القرم والمقاطعتين الشرقيَّتين على حدود روسيا.

الآن وقعت الحرب، مع كل نتائجها المدمرة سياسياً وعمرانياً واقتصادياً على أوكرانيا، ولن يكون من السهل العودة بالوضع إلى ما كانت إليه الأمور قبل غزو شبه جزيرة القرم عام 2014. ولا يمكن لبوتين ان يتراجع لأن ذلك سيعني له الإقرار بالهزيمة، وبالتالي القبول بدفع الثمن الباهظ، والذي يعني سقوطه سياسياً، وهو الأمر الذي سيقاومه حتى الرمق الأخير.

في المقابل لا يمكن للغرب الأوروبي والأميركي ان يغمض عينيه عن خرق بوتين لكل القوانين الدولية، والسماح له بالتالي بارتكاب جرائم حرب ضد السكان المدنيين، وفق آخر الاتهامات الموجهة إلى الجيش الروسي من داخل اوكرانيا ومن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي وصف فيها رئيسها جو بايدن الرئيس بوتين بمجرم حرب.

يبقى الخوف الأكبر من السماح لبوتين بتحقيق مكاسب استراتيجية في حربه على أوكرانيا، لأن ذلك كفيل بفتح شهيته للتمدد باتجاه دول البلطيق الثلاث، وباتجاه كازاخستان، ويشكل هذا التوسع في التهديد الروسي المصيري لدول الجوار عائقاً امام دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للدخول في مفاوضات تسوية مع بوتين، وبالتالي فتح الباب لمؤتمر«يالطا» جديد، ومما يسمح بإجراء تعديلات واسعة في الخريطة الأوروبية.

يعيدنا الطريق لاعتماد مثل هكذا سيناريو إلى ملاحظة قالها السياسي الأميركي روبرت شتراوس عن تجربة «الرقص مع الدب» والتي تعني الدخول في الألاعيب السياسية وتقاسم المغانم والتفوق بين الغرب والشرق،  حيث نصح شتراوس الغرب بأنه اذا قبل هذه اللعبة فإنه لا يمكنه التوقف عن الرقص عندما يشعر بالتعب بل عليه الاستمرار فيه حتى يشعر الدب بالارهاق ويكف عن الرقص.

من هنا بات على الغرب الاستمرار في لعبة الحصار والعقوبات حتى سقوط بوتين من خلال الشارع الروسي.