بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 أيلول 2022 08:01ص الدولار والحرب الأوكرانية

حجم الخط
تؤثر الحرب الروسية على أوكرانيا في الدولتين وعالميا. يشعر العالم اليوم بأهمية أوكرانيا كاقتصاد وينوه بشجاعة الشعب في مواجهة الحرب المؤلمة والمدمرة. تأثيرات الحرب عالمية في نواحي التضخم والامدادات والعرض كما في ناحيتي الطلب والنمو. وصلت تأثيرات الحرب الى البورصات العالمية حيث تدنت المؤشرات حتى في الأسواق الكبيرة الناضجة وفي طليعتها نيويورك. انخفاض البورصات وارتفاع أسعار المحروقات كما القمح والمعادن تشير الى ظروف اقتصادية عالمية صعبة قادمة. من نتائجها زيادة الانفاق العسكري عالميا حتى في دول تخلت منذ الحرب العالمية الثانية عن التسلح كألمانيا واليابان.
تبعا لصندوق النقد الدولي ستستفيد دول المنطقة المصدرة للنفط من ايرادات ايضافية تعادل 1,4 ألف مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة. كما بسبب دولرة اقتصاداتها، تستفيد أيضا من قوة الدولار للاستيراد بتكلفة أقل مما يخفض التضخم داخلها. أما دول المنطقة المستوردة للنفط، فأوضاعها تتعثر أكثر وتنتظر دون شك المساعدات الايضافية من الدول والمؤسسات الصديقة والشقيقة.
هنالك دول انضمت مؤخرا الى حلف شمال الأطلسي كالسويد وفنلندا، وهي كانت محايدة لكن الخوف من التأثيرات الحربية الروسية المباشرة وغير المباشرة جعلها تغير سياساتها المزمنة. زيادة الانفاق على التسلح في ظروف ضيقة اقتصاديا تعني تخفيف الانفاق على الأمور الاجتماعية منعا لتفاقم الدين العام وزيادة خدمته في وقت ترتفع خلاله الفوائد لمواجهة التضخم. من ضحايا الحرب سياسات المناخ حيث تهتم الدول اليوم بتأمين المحروقات أياً كانت مصادرها وأنواعها فتضع سياسات المناخ جانبا لظروف مستقبلية أفضل. من ضحاياها أيضا التقلبات المالية الكبيرة وسقوط النقد الرقمي ومن رموزه الكبيرة البيتكوين، مما يؤثر على مستقبله والثقة به. مسيرة البيتكوين كوسيلة للتبادل سقطت أو أقله تعثرت لمدة طويلة. قالت «كريستين لاغارد» حاكمة المصرف المركزي الأوروبي أن العملات الرقمية لا تساوي شيئا لأنها لا ترتكز على شيء.
من نتائج الحرب الأوكرانية ارتفاع سعر صرف الدولار لسببين أولهما زيادة الطلب على النقد الكبير بسبب زيادة الثقة به في الأوقات العصيبة، وثانيا بسبب رفع الفوائد من قبل المركزي الأميركي لمحاربة التضخم مما يجعله أكثر جاذبية للمدخرين. في العقود الماضية كان ارتفاع سعر صرف الدولار يؤدي الى حروب تجارية بين المجموعات الاقتصادية، أما اليوم فارتفاعه يمر تحت صمت واضح أو ربما قبول بسبب خطورة المرحلة.
هل تحسن الدولار في الأسواق العالمية عامل خير أم العكس؟
أولا: ارتفاعه يزيد المخاطر في الأسواق المالية وفي الاقتصاد الدولي بسبب الضرر الذي يلحقه بالدول النامية والناشئة. هذه الدول تقترض بالنقد الأميركي مما يجعلها تتعثر في تسديد الديون التي ترتفع تكلفتها. تتوجه عندها نحو الافلاس أو اعادة الجدولة، والاثنان صعبان.
ثانيا: تحسن الدولار يجعل السلع، في الدول التي لا تعتمده كنقد، أقل تكلفة للتصدير. صادرات الدول غير المدولرة ترتفع، وبالتالي تستفيد أكثر من ايراداتها الخارجية بالعملات الصعبة. في ظروف اليوم، الدولرة ليست الحل المناسب للأوضاع الاقتصادية الصعبة.
ثالثا: تستفيد الولايات المتحدة من قوة الدولار لزيادة استيرادها حتى لو ارتفع عجز الميزان التجاري. المنتجات المستوردة تصبح أرخص للأميركي وبالتالي تشكل قوة النقد سلاحا قويا لمحاربة التضخم تماما كالفوائد. يبقى الاستهلاك قويا في أميركا، وهذا يمكن أن يجنب الاقتصاد الركود القاسي.
رابعا: وصول التضخم القوي الى الولايات المتحدة بعد طول غياب. هذا يفرض على المركزي رفع الفوائد وهذا ما يقوم به. ما زالت رؤوس الأموال تتدفق الى الأسواق الأميركية بسبب الثقة في الاقتصاد عموما، كما أن الأسواق المالية تحديدا بتنوعها وخصائصها وحجمها ما زالت مصدر جاذب لرؤوس الأموال خاصة من الدول النامية والناشئة التي تسعى الى الآمان.
من الأمور الغريبة في اقتصاد اليوم هو ارتفاع الطلب على العمالة في قطاعات محددة بسبب تحولها مع الكورونا من مهن الى أخرى. عندما خف تأثير الكورونا ارتفع الطلب عليها مجددا وهي في مكان آخر. لذا نقل البضائع والزحمة في المرافئ العالمية سببها غياب العمالة المتخصصة من ناقلة للسلع الى قيادة الشاحنات. مجموعها يفرض تغييرا كبيرا مبدئيا في سياسات الهجرة أي استيراد العمال من الدول النامية والناشئة.
أما النتائج العالمية الظاهرة فهي تعثر العولمة بسبب الحرب وصعوبة النقل واغلاق العديد من الحدود واعتماد السياسات الانغلاقية للحماية. جميعها يؤثر سلبا على النمو العالمي الذي يستمر رغما عنها. لا زالت العولمة قائمة كما تشير اليه احصائيات الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ارتفعت 77% في 2021 فوصلت الى 1,65 ألف مليار دولار. كما أن السياحة العالمية ارتفعت 4% خلال 2021 بعد تقلص تأثير الكورونا السلبي. في حجم التجارة العالمية من المتوقع أن ترتفع 5% هذه السنة و4,4% في 2023 اذا لم تتفاقم الأوضاع.
أما العلاقات الثنائية بين الدول الاقتصادية الأساسية فهي متعثرة وتشوبها عوامل الحذر وعدم الثقة، أهما العلاقات الأميركية الصينية حيث ما زالت التعريفات الجمركية المرتفعة قائمة على استيراد السلع الصينية. اذا وضعنا السياسة جانبا، أفضل وسيلة لمحاربة التضخم في الولايات المتحدة هو الغاء التعريفات الجمركية الايضافية التي وضعها «ترامب» فتصبح السلع الصينية أرخص وتؤثر ايجابا على مؤشرات الأسعار. أما الاستغناء عن الصادرات الروسية فيتم بهدوء بسبب غياب البدائل خاصة في الغاز المهم جدا للاقتصاد الأوروبي وخاصة الألماني. ان تكلفة أي تغيير كبير في وسائل ومصادر الامدادات وطرق الانتاج تبقى كبيرة لقطاعات الأعمال حتى الأعلى انتاجية بينها كالألماني تحديدا.
للعقوبات الموضوعة أميركيا وعالميا على روسيا بسبب الحرب تأثيراتها الكبيرة على المسيرة العنفية وإن لم توقفها. وضعت هذه العقوبات عمليا روسيا خارج النظام المالي والمصرفي العالمي، لكن روسيا بمواردها الطبيعية وتركيبة اقتصادها تحمي نفسها جزئيا منها. الحليف الأساسي لبوتين هو الغاز الذي تحتاج اليه أوروبا، ولا يمكنها الاستغناء عنه قبل ايجاد مصادر بديلة. كما أن العقوبات تبقى واقعيا غربية وليست دولية، حيث أن الصين ودول أخرى لم تنضم اليها وهذا يضعفها. البعض يفكر أن العقوبات توقف الحرب، لكن هذا ليس مؤكدا اذ يمكنها على العكس أن تكون حافزا للمزيد من العنف الانتقامي والحروب، لذا هي سيف ذو حدين. أما طلب تسديد فاتورة صادرات الغاز بالروبل، فكان ذكيا مما سمح للنقد الروسي بالتحسن في أسواق الصرف. أخيرا لا شك أن المساعدات الكبيرة لأوكرانيا ستطيل الحرب وتجعل الأوكرانيين يصمدون أكثر بالرغم من التكلفة الانسانية والمادية الباهظة.