بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 أيلول 2021 12:02ص المعرفة مصدر الانقاذ

حجم الخط
جميع الدول والحكومات المسؤولة تحاول تحقيق النمو والثروة والبحبوحة لشعوبها. تكمن المشكلة في ايجاد العوامل والموارد التي تسمح بتحقيق الأهداف. في الفترات الحياتية الصعبة كالتي نعيش خلالها اليوم، تغيب عن اذهاننا العوامل الطويلة الأمد للتطور لأننا غارقون في مشاكلنا الحالية.  تحديات التقدم التكنولوجي والكورونا ليست بسيطة ومستمرة، والمعالجة تتطلب سياسات جديدة وقدرات مالية وفكرية كبيرة. المهم أن تبقى النتائج على صعيدي النمو والتنمية لأن انعكاس كل شيء على الانسان هو الأساس.

في دراسة مهمة للاقتصادي «روبرت سولو» حامل جائزة نوبل للاقتصاد يقول فيها أن زيادة الادخار لا تؤدي الى ارتفاع نسب النمو الطويل الأمد.  مصدر النمو في رأيه هي زيادة الانتاجية، وهذا ما يتم اهماله في الدول النامية بما فيها العربية. نلاحظ التركيز من قبل الدول النامية والناشئة على تجميع الادخار لتمويل الاستثمارات، ونرى أيضا أن النتائج لا تكون فضلى في معظم الأحيان. قسم سولو مصادر النمو الى زيادة رأس المال وزيادة عدد العمال لكنه لم يجد أنها تكفي لاحداث النمو الطويل الأمد. زيادة الانتاجية المبنية على المعرفة والتجدد والعلم هي الأساس.  مصدر النمو في رأي سولو هو التطور التكنولوجي الذي يؤدي الى رفع الانتاجية وبالتالي رفع مستوى المعيشة للشعوب وخاصة للفقراء وأصحاب الدخل المتواضع.

 الفارق الأساسي بين الدول الصناعية والدول النامية ليس الغنى المادي أو انتاج السلع والخدمات بل التباين الكبير في مستويات المعرفة.  تحقيق النمو في الدول الفقيرة يعتمد على تضييق فارق المعرفة مع الدول الغنية.  لتضييقها قواعد وتجارب لا يمكن نسخها بسهولة لأنها تعتمد على الثقافة والتاريخ والتجارب، وبالتالي التعلم يتطلب الجهد دون النسخ.  الفارق بين تضييق فجوة المعرفة والفجوات الأخرى هو أن الأولى تتحرك وبالتالي هي عملية مستمرة لا تتوقف.  تعتمد المعرفة على وجود مجتمع راغب وقادر للتعلم والاستفادة من التجارب.  تعتمد على استفادة المجتمع من تقدم العلوم، وهذا ليس متوافرا في كل الدول.  حرية الاقتصاد مهمة جدا لكنها لا تكفي لالغاء فجوة المعرفة التي تتطلب جهودا كبرى من قبل الحكومات والمؤسسات الفكرية من جامعات ومدارس وغيرها.

ثم أتى «كينيث أررو» حامل آخر لجائزة نوبل ليفسر التقدم التكنولوجي مرتكزا على عاملين مهمين هما البحث والتطوير والتعلم من الخبرة والتجارب أي النمو من الداخل.  البحث والتطوير يسبقان الانتاج ويقللان من امكانية الأخطاء واضاعة الوقت.  التعلم من التجربة يأتي من الأخطاء أو من ضعف المعرفة وبالتالي مهم ومكلف.  لذا يرتكز النمو على المعرفة أو بالأحرى على انتاج المعرفة الذي يختلف عن انتاج كافة السلع والخدمات، فهو أصعب وأدق.

عندما يحصل النمو من الداخل، تخف المنافسة لأن هذه الاستثمارات العلمية تحتاج الى شركات أو مؤسسات كبيرة تقوم بها.  ضعف المنافسة يؤدي الى انخفاض الفعالية التي تترافق عموما معها في كل الأسواق.  انخفاض الفعالية كما الانتاجية يؤثران سلبا على تطور الاقتصاد أي على المستوى المعيشي للمواطن.  لذا تحاول الدول درس السياسات التي تساهم في رفع انتاجية الاقتصاد منها التجارية والصناعية كما سياسات سعر الصرف.  في كل منها، هنالك دور كبير للمعرفة ربما يكون خفيا لكنه موجودا.

 يمكن للسياسات التجارية الحمائية أن تكون مفيدة في الاقتصادات الضعيفة في المرحلة الأولى لحماية الشركات الصغيرة وخاصة الصناعية كي تنمو وتذهب لاحقا الى المنافسة المفتوحة.  هدف الاقتصاديان الكبيران الى خلق «مجتمع معرفة» وليس فقط «اقتصاد معرفة» وهو هدف كل مجتمع راق وجدي وينعم بمسؤولين على قدر المسؤولية.  للأسف عدد كبير من الدول النامية والناشئة يفتقد الى نوعية المسؤولين المجهزين فكريا لقيادة مجتمعاتهم.  للوصول الى «مجتمع معرفة»، يجب تحضير الانسان ذهنيا وفكريا وعلميا لأنه يبقى الأساس للتقدم.

ما هي العوامل التي تسمح بتقوية الاقتصاد ليتحول الى مجتمع معرفة جاهزا للمنافسة؟

أولا:  عاملي التجدد والتعلم مهمان جدا في كل الأوقات.  العلم يفتح الأذهان ويعزز فرص الابداع التي لا تأتي من الفضاء بل من القراءة والاصغاء الى الأفكار الجديدة ومحاولة تطويرها شرط عدم النسخ المجاني الذي يعتبر غير شرعي وغير أخلاقي.  اقفال العقل تجاه الأفكار الجديدة هو من أخطر العوامل المؤدية الى الجهل والتخلف.

ثانيا:  بذل كل الجهود لتطوير القطاع الصناعي لأن له ميزات لا توجد في القطاعات الأخرى.  أهمية الصناعة أنها تفيد نفسها كما كل الاقتصاد.  تشير الدراسات الى أن الانتاج الزراعي يتطور معتمدا على التقدم التكنولوجي الصناعي.  لذا نرى دول عبر الزمن تحمي أو تعتني بدقة بالقطاع الصناعي ليس فقط لأنه مهم بل لأن انتاجيته تنعكس ايجابا على القطاعات الأخرى.  تشكل أوروبا المثال الأفضل لانتقال التكنولوجيا عبر القطاعات.

ثالثا:  المرور من المستوى النامي الى المتقدم يحتاج الى عمل كبير للحماية والانتاج.  السياسات العالمية التي طبقت طويلا كان تسمى «اجماع واشنطن» لأنها سوقت من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين الموجودان في العاصمة الأميركية.  وصفات الأجماع كانت ترتكز على التقشف والخصخصة والمنافسة والحرية التجارية والمالية وهي غير كافية للانتقال بدولة متعثرة الى مستويات افضل.  تشير دراسات «سولو» و»أررو» الى ضرورة العمل من الأرض لنقل الاقتصاد الى مراحل متقدمة.  أهم عاملين هما التجدد والتعلم اللذان يرفعان الانتاجية كما الفعالية.

رابعا:  تبعا لسولو وأررو، يختلف دور الحكومة كثيرا بين اجماع واشنطن وما يعتقدون أنه الأفضل.  في الاجماع، دور الدولة هو خلق الأطر المناسبة التي تسمح للقطاع الخاص بالتطور والنمو.  في رأي الاقتصاديين الكبيرين، هنالك دور أكبر للحكومة في تعزيز الانتاج وتمويل المختبرات كي تحدث التجارب العلمية التي تنتج الابداع والانتاجية.  هنالك دور كبير للحكومات في رقابة مستوى التعليم كي يكون أفضل الممكن.

خامسا:  في رأي العالمين الكبيرين، فتح الأسواق المالية أمام تدفق رؤوس الأموال يمكن أن يشكل خطرا على الاقتصادات الضعيفة وبالتالي يؤثر سلبا على النمو الطويل الأمد.  فتح هذه الأسواق مبكرا يمكن أن يفيد الدول الصناعية المستثمرة دون أن ينعكس ايجابا على مواطني الدول الفقيرة.  ربما تكون الافادة في الاستهلاك والتبذير وليس في تقوية ركائز الاقتصاد النامي.  من هنا تدخل السلطات النقدية لبقاء سعر الصرف منخفضا يفيد الانتاج والصادرات وبالتالي يصب في صالح الدول النامية.

تحقيق مجتمع المعرفة ضروري وصعب ويتطلب وجود رؤية واضحة ورغبة في تحقيقه من قبل كل مكونات المجتمع.  الوصول اليه شاق لكن منافعه تظهر مع الوقت.