بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 آب 2022 12:21ص النقل، الطاقة والنمو

حجم الخط
نتكلم دائما عن الاتصالات والأنترنت كركيزتين أساسيتين للتطور في القرن الحالي ومستقبلا. نجهل أو نتجاهل أهمية قطاع آخر ساهم بقوة في تحقيق النمو بل التنمية الاقتصادية عبر القرون وهو النقل.  في القرن التاسع عشر، كان السفر مكلفا، غير مريح، خطر وبطيء. نقل البضائع كان بطيئا، مكلفا وغير مضمون النتائج.  تغيرت الأوضاع ليس فقط في التكلفة والسرعة وانما أيضا في السلامة والراحة.
تطور قطاع النقل عبر ثورات ساهمت في تسريع وتحسين شروط العمل بدأ من البحر الى سكك الحديد والسيارات وثم الطيران فالفضاء، كما شهدنا مؤخرا مع العملاقين «برانسون» و«بيزوس».  نجاح كل ثورة بني على صناعات تقدمت بشكل مواز، مثلا قطاع النقل البحري بني على تطور بناء السفن وسرعتها وفعاليتها في حسن القيادة والابحار.  تطور سكك الحديد بني على تصنيع قطارات زادت سرعتها مع الوقت بفضل طاقة البخار.  أما قطاع النقل البري عبر السيارات والشاحنات فلم يكن ليزدهر لولا بناء المحركات التي اعتمدت على الطاقة المتنوعة.  نعلم جميعا أهمية قطاع الطيران لكل شيء بدأ من السفر الى النقل، علما أن فعاليته في ازدياد مستمر بالرغم من التأثيرات السلبية للكورونا التي ضربته اقتصاديا وماليا دون أن تؤثر على التكنولوجيا.
السرعة والسلامة والفعالية لم تعد العوامل الوحيدة المهمة في هذه القطاعات.  أدخلت المواضيع البيئية اليها أي ضرورة بناء قطاعات نقل لا تلوث أو أقله مع تلوث قليل أدنى بكثير من واقع اليوم.  مستقبل القطاع سيكون نظيفا أي سيعتمد أكثر فأكثر على طاقات غير ملوثة لأن مشكلة التلوث هي عالمية.  اذا وجد التلوث في أسيا أو أميركا أو استراليا، سنجده أيضا في العالم العربي بسبب انتقاله عبر الهواء والمياه والانسان وغيرها من الوسائل.  عامل التلوث هو أحد الأسباب الأساسية وراء انتاج السيارات الكهربائية التي بدأت تغزو الأسواق لكنها ما زالت مرتفعة الثمن وتحتاج بديهيا الى وجود كهرباء وهذا غير متوافر في العديد من الدول الناشئة والنامية.
يؤثر النقل على نوعية الحياة، لكنه يعتمد في نفس الوقت على بنية تحتية مناسبة.  أما البرنامج الذي صوت عليه الكونغرس الأميركي والذي اقترحه الرئيس بايدن فهو مؤشر واضح على أهمية البنية التحتية في حياة الانسان.  برنامج 1,2 تريليون دولار الذي جمع الحزبين في التصويت سيساهم في تطوير الطرق وسكك الحديد ويدعم الاتصالات والبيئة.  أميركا لا تكتفي بما هي عليه وتسعى لتطوير نفسها تحضيرا لتحديات المستقبل الكبيرة.  أما الصين، فطريق الحرير الجديدة ترتكز على بناء البنية التحتية العالمية وبالتالي تشكل اعترافا واضحا بأهمية النقل للنمو.
لا شك أن ارتفاع أسعار النفط سيسرع تحول النقل المعتمد على المحروقات العادية الى آخر يرتكز على الكهرباء وربما الهواء والمياه والنووي السلمي وغيرها.  الهندسة الكهربائية ستكون أكثر أهمية في المستقبل، ولا بد من لفت نظر الجامعات والمعاهد المهنية الى ضرورة المتابعة بل قيادة التطور في هذا الاختصاص المهم.
هنالك 4 عوامل ستحدث تغييرات كبيرة وعميقة في قطاع النقل:
أولا:  ارتفاع مؤشرات التلوث التي لم تعد تحتمل وتؤثر على صحة الانسان.  التلوث يؤذي الهواء والماء ويحدث أضرارا في صحة الأطفال أي مستقبل المجتمعات كما يؤثر سلبا على الزراعة والغذاء والعديد من القطاعات الطبيعية.
ثانيا:  تغير المناخ مقلق وينتج عن بث السموم في الهواء.  ما حدث من حرائق في أوروبا وغيرها مخيف ومؤلم ويمكن أن يأتي الينا بسهولة.  ما حدث من فياضانات في اليابان وأوروبا وغيرها مقلق وتشير الوقائع ألى عدم امكانية اصلاح كل الأضرار أو التعويض بشكل كامل على المتضررين.  تشير الحرائق والكوارث الى تغير كبير في الطقس والى ضرورة تطوير امكانات المواجهة بشريا وتقنيا حتى في أكثر الدول تقدما.
ثالثا: هنالك موجة عالمية تدفع باتجاه الاستعمال المتزايد للطاقة المتجددة والدوافع عديدة وليست كلها اقتصادية.  المهم أن تكون هذه الطاقات فاعلة أي تعطي النتائج الجيدة.  هنالك مصلحة بديهية باستعمال الطاقات المتجددة حفاظا على الثروات وتمديدا للاستفادة منها.
رابعا:  مع النمو الاقتصادي الكبير الذي حصل قبل الكورونا ومن المتوقع أن يعود بدءًا من آخر 2022، لا بد من التفكير أكثر من الماضي بطاقات لا تحدث تشنجات وحروب دولية كما حصل سابقا.  الطاقة مهمة للحياة، والدول بجيوشها مستعدة للدفاع عن شعوبها للحصول على طاقات بكميات كافية وأسعار معقولة.  محاولة اكتشاف طاقات جديدة تدخل في صلب الاستراتيجيات الوطنية للدفاع عن الشعب والدولة.
مهما كانت طبيعة مصادر الطاقة التي تملكها الدول، لا بد وأن تفكر بتنويعها حفاظا على دورها ومستوى المعيشة.  هذا التنويع هو ركيزة المستقبل وتجاهله مضر.  مشكلة أوروبا الأولى اليوم هي استبدال الغاز الروسي بمصادر أخرى غير متوافرة كليا، ولا بد من التقنين المزعج القاسي.  حتى الدول النفطية في «الأوبيك» وخارجها لها مصلحة في تنويع طاقاتها بحيث لا تتضرر من أي تغييرات كبيرة ودائمة في خريطة الطاقة العالمية.
هنالك تعاون ضروري بين القطاعين العام والخاص في تطوير النقل وتحديثه.  من الأمثلة الكبيرة تطوير القطارات السريعة TGV أهمها في فرنسا.  بعد انخفاض استعمال سكك الحديد للنقل، تعاونت الدولة الفرنسية مع القطاع الخاص لانتاج القطارات السريعة التي تزداد فعالية وسرعة مع الوقت فتقرب المسافات.  انتقلت التكنولوجيا الى دول عديدة في أسيا وأميركا مما ساهم في اعادة الحياة الى قطاع سكك الحديد.  أما الشحن الجوي، فربط السماء بالأرض كي تصل البضائع والسلع الى أصحابها وهذا تطلب تعاونا بين المطارات والقطاع الخاص للسلامة والسرعة.  لا ننكر أبدا أهمية قطاع التأمين في تسهيل كل شيء، فيطمئن المواطن كما الشركة الى انتقال السلع والأشخاص بدرجات السرعة والسلامة الممكنة.
تطور قطاع النقل وزيادة استعمال كافة أقسامه ساهما في تدني التكلفة الحقيقية وبالتالي في زيادة الاستعمال.  تطور النقل المستقبلي يعتمد على أربعة ركائز أي الحجم والكمية، السرعة، الفعالية وتوافره للشركة والمستهلك في كل أنحاء الأرض.  النقل يجمع ويقرب ولا امكانية للتطور المجتمعي المستقبلي من دونه شرط أن يعتمد تدريجيا أكثر فأكثر على الطاقة غير الملوثة.  باختصار، مستقبل النقل الأرضي هو كهربائي، والبحري هو هوائي مع تدني حصة النقل الجوي لصالح القطارات السريعة بين الدول وداخلها.  ما يحصل اليوم في قطاع النقل هو ثورة حقيقية في الأسعار والتكنولوجيا، بل فرصة ثمينة للانتقال الى قطاع عالمي فاعل ونظيف.