بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 كانون الأول 2020 12:02ص سقوط مفهوم القيادة والسلطة وعبثية التشريع

حجم الخط
هل تصدّق بأن «العراضة التشريعية» التي قدّمها المجلس النيابي نهار أوّل أمس، والتي تضمنت سن تشريع تجمّد بموجبه السرّية المصرفية لمدة سنة، وذلك تسهيلاً لإجراء تدقيق مالي جنائي في مصرف لبنان وفي بقية وزارات ومجالس وصناديق الدولة، بحثاً عن مزاريب السرقة والهدر المتمادي للمال العام، والذي امتد على ما يقارب ثلاثة عقود؟

من الصعب جداً أن نصدق توافر حسن النية للسير قدماً بهذا التشريع الجديد والذي من المفترض أن يكشف عن مكامن الفساد وأن يحدّد هوية الفاسدين، والسماسرة الذين استسهلوا نهب المال العام.

من الصعب أيضاً أن نصدق بأن هذا المجلس النيابي بكتله النيابية واحزابه واشخاصه الذين شاركوا في جميع الحكومات «التوافقية» المسؤولة عن كل السرقات واعمال الهدر، هم أنفسهم قد صوّتوا من أجل إقرار قانون يجيز «التدقيق الجنائي المالي»، والذي سيشكل طوق المشنقة حول رقابهم، في حال اجرائه من قبل لجان تدقيق فاعلة ومنزهة.

في رأينا، ان إقدام المجلس على السير قدماً في إقرار هذا القانون قد جاء على خلفية ضرورة قيام المجلس بخطوة على طريق الإصلاح، على الأقل من الناحية النظرية، على ان يبقى في حدود الممكن أمر إفشالها من خلال الآليات الدستورية والتشريعية، والتمسك بالحصانات من أجل تعطيل كل آليات المحاسبة سياسياً وقضائياً. ليس هناك من حاجة للاجتهاد في هذا المجال، في ظل الوقائع التي يشهدها التحقيق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، وعملية الهروب من المسؤولية التي لجأ إليها رئيس الحكومة المكلّف ووزيرين سابقين للمالية والاشغال العامة.

تفترض المحاسبة الفاعلة، وجود قانون وسلطة قادرة على تنفيذه، ويدفعنا هذا الأمر إلى التساؤل جدياً عن جدوى وجود تشريع يجيز التدقيق الجنائي في حسابات جميع إدارات الدولة، في ظل غياب سلطة فعلية قادرة على كشف هوية السارقين، وجلبهم امام العدالة، والنطق بحكم الإدانة، والاقتصاص منهم، بسجنهم واستعادة ما امكن من المال العام الذي استباحوه، على غرار ما حدث مع حكام بعض الدول، الذين اتهموا بالفساد، وجرت معاقبتهم بسجنهم أو نفيهم، مع استعادة ما امكن من المال المنهوب. ولا بدّ في هذا السياق من أخذ العبرة من المصير الذي واجهه فرديناند ماركوس الرئيس الفيليبيني الأسبق الذي مات في منفاه في جزر هاواي، واستعيد من المال المنهوب ما يقارب ثلاثة مليارات ونصف من الدولارات. لكن لا بدّ من التذكير بأن العقاب ضد ماركوس قد أقرّته السلطة الجديدة، والتي انخرطت في مسار إصلاحي يهدف إلى اولاً: تفعيل الحكم وإدارة البلاد، وثانياً: إلى الاقتصاص من الطبقة الفاسدة.

وهنا لا بدّ من التذكير بأن الثورة التي اندلعت في 17 تشرين أوّل عام 2019 لم تنجح في خلخلة ركائز النظام، وكان اللافت فشلها في الدفع باتجاه أية خطوة إصلاحية أو محاسبة أي من المسؤولين عن الفساد. وانتهت الأمور بعد جريمة انفجار المرفأ بعودة جموع النّاس إلى منازلهم واعمالهم، وبقي من في السلطة، كل في موقعه أو مزرعته، يتكاتفون في حماية مواقعهم ومصالحهم.

كان من المتوقع ان يؤدي هول الفاجعة التي حلّت بأهالي بيروت بنتيجة انفجار المرفأ إلى تسعير نار الانتفاضة وتزخيم المطالب الداعية إلى إسقاط الطبقة السياسية الراهنة، وفتح الباب لاجراء انتخابات نيابية، ينتج عنها تشكيل سلطة إصلاحية، قادرة على استعادة ثقة المواطنين، بالإضافة إلى ثقة المجتمعين العربي والدولي. وعلى عكس ما كان متوقعاً، فإن السياسيين قد تنكّروا لمسؤوليتهم عن فداحة الخسائر، كما تجاهلوا واجبهم كمسؤولين عن الجريمة، فجهَّلوا من اشترى النيترات ومن شحنها، ومن أمر بتخزينها في قلب العاصمة بانتظار حدوث الجريمة النكراء التي حلّت ببيروت وأهلها.

لم يؤثر منظر الدمار الذي حلّ بأحياء بيروت والدموع التي هدرت على فقدان الأبناء أو الآباء والأمهات على سلوكيات وخيارات من هم في السلطة، ولم يخجلوا من اهمالهم وتواطئهم أو الاثنين معاً، واللذين أدّيا إلى أبشع مأساة حلت بالعاصمة منذ الزلزال الكبير الذي تسبب بهدمها زمن الامبراطورية الرومانية عام 551. وهكذا رأينا بأن حالة الاضطراب الفريدة التي تسبب بها الانفجار، لم تتسبب بأكثر من اهتزاز تكتيكي ومؤقت للطبقة السياسية، وهذا ما يؤشر إليه غياب كامل لأية رؤية استراتيجية، تدفع إلى العمل على تشكيل حكومة إصلاحية، قادرة على الاستفادة من المبادرة الفرنسية وتزخيمها دولياً وعربياً، بحيث يُصار بالسرعة اللازمة إلى بلسمة جراح العاصمة، وانتشال لبنان من حالة الإفلاس الاقتصادي والمالي التي يتخبّط فيها منذ سنوات عديدة.

يبدو بوضوح مدى تقاعس الدولة عن القيام بأية جهود من أجل لملمة آثار الكارثة، وسرّهم ان يجدوا بإنشغال شبان وشابات الثورة يعملون بجهد ونشاط لمساعدة المصابين ورفع الأنقاض وكنس الشوارع، وبالتالي إنهاء حركتهم الاحتجاجية الهادفة إلى زلزلة مواقعهم في السلطة.

كان اللافت في الأمر اخفاق جميع مؤسسات الدولة في القيام بالاعباء المتوجبة عليها تجاه ما حصل لأهالي بيروت، وهذا أظهر مدى ضعف موقعها القيادي، وغياب روح المسؤولية لديها، ولا يدعو هذا الأمر للاستغراب والاستهجان فقط بل إلى التشكيك بمدى اهليتها لقيادة البلاد.

وكان اللافت أيضاً ومنذ اليوم الأوّل بعد الانفجار،  رفض شامل وعام لفكرة اجراء تحقيق دولي، يظهر الفاعلين ويحدد المسؤوليات في هذه القضية المعقدة منذ بدايتها في جورجيا ونهايتها في بيروت. وبالفعل فقد أظهرت الأيام الأسباب الحقيقية لاصرارهم على إبقاء التحقيق بأيادي لبنانية، وذلك انطلاقاً لادراكهم لقدرتهم على تعطيل سلطة المحققين وطمس القضية دفاعاً عن مواقعهم في السلطة، وهنا نسأل وبصراحة، بعد الذي حصل مع المحقق العدلي فادي صوان، عن مصير التحقيق، وجدوى الإحالة إلى المجلس العدلي؟

تؤشر الكمائن المتتالية التي نصبها العهد وتياره وحلفاؤه للسفير مصطفى أديب ومن بعده لسعد الحريري، بأنه لا تتوافر النيّة لدى هذه الفئة القابضة على زمام السلطة للمساعدة على تشكيل حكومة قادرة على اعتماد برنامج إصلاحي والشروع بتنفيذه، وبما يتجاوب مع المطالب الدولية الإصلاحية. يدعو ما رافق عملية تشكيل «حكومة اصلاحية» من كمائن وعمليات تخريب على من هم في رأس السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية ومدى قدرتهم على الفعل في العملية الإنقاذية المطلوبة. واننا نرى بأنهم لن يفعلوا ذلك متمسكين بمكاسبهم ومصالحهم إلى ما لا نهاية.

في رأينا فقد سقط مفهوم السلطة الفاعلة والمسؤولة في لبنان ولم يعد هناك من أمل لتعويمها ودفعها للقيام بواجبها وفق منطق الدستور ووفقاً لنصوص القانون. من هنا تبدو مدى عبثية التشريعات الإصلاحية التي اصدرها أو سيصدرها المجلس النيابي، في ظل ادراكه الكامل لعدم قدرة الدولة على تنفيذها في ظل وجود مثل هذه السلطة المشلولة والمعطلة، بما في ذلك السلطة القضائية، والتي رضخت لمشيئة الطبقة السياسية الفاسدة.