الإفتتاحية

مدير وكالة المخابرات الاميركية (سي آي إيه) وليم بيرنز نشر مقال في مجلة (فورين أفيرز الاميركية) يتحدث فيه عن التحولات العالمية العميقة، والمقال بمثابة وثيقة مكتوبة كثيفة الوقائع والموضوعات دقيقة التعابير والتوجهات والايضاحات ومن موقع المسؤولية تتحدث اميركا بصدق ووضوح وشفافية بعد ان كذبت على شعوبنا على مدى عقود طويلة، مما جعلني أرسل المقال الطويل والدقيق الى العديد من الاصدقاء والذي جدد اعتقادي بضرورة وجود نخبة وطنية لبنانية متجددة قادرة على احداث مراجعة وطنية جامعة على قاعدة الاعتراف بالاخطاء والارتكابات ومحررة مما كان وتتطلع الى ما سيكون وتعمل على استعادة ثقة الاجيال الصاعدة بالتجربة الوطنية اللبنانية وبعث الامل في بناء مستقبل آمن .

           التحولات العالمية العميقة الجديدة تأتي نتيجة صعود قوى عظمى وتجمعات إقتصادية وقارية جديدة وبعد الفشل في مواجهة وباء كورونا والفشل في احتواء الحرب الاوكرانية والفشل في مواجهة صعود اليمين الديني في الغرب والشرق والذي بات يهدد عمليات التجدد المجتمعي في الدول القوية والضعيفة، وهذه التحولات جعلت النخب الاستخباراتية تحاول مساعدة القادة على مواجهة التحديات والتنقل بسلاسة في المشهد الدولي المعقد والتأقلم مع التنافسية العالمية الجديدة .

          التحولات العالمية العميقة تحتم التسليم بتأثير التطور التكنولوجي والذكاء الصناعي السريع والمكثف وعدم القدرة على التحكم بمآلاته، مما يستدعي استحضار التحولات التاريخية العميقة التي رافقت تطورات الثورات الصناعية وحربها العالمية الاولى وما احدثته من تحولات في مقدمتها زوال الامبراطوريات الدينية الروسية والنمساوية والعثمانية، ثم الحرب العالمية الثانية وانهيار الدولة القومية الالمانية واليابانية والايطالية وصولا الى الحرب العالمية الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة اوروبا الشرقية الشيوعية .

          ان لبنان الجديد بحاجة الى موجة وطنية قادرة على تجاوز العنف الطائفي والعنف المصرفي والعنف الاعلامي والعنف القبلي وتجاوز المعايير التقليدية وثقافة ادارة الأزمات العميقة ومتمكنة من الدولة واسبابها وقواعدها ومحررة من مهارات اعادة تكوين السلطة واستثناءاتها وبعيدة عن احتراف تحريك العصبيات المذهبية والقبلية وعسكرة المجتمعات وتدمير المظاهر المدنية عبر النزعات الاهلية المسلحة واغتيال كل رموز بناء الدولة الوطنية الحديثة .

            ان اهوال مجازر غزة هي نتيجة الاهمال العالمي لأطول نزاع في التاريخ والتمادي في القهر وإزدواجية المعايير التي ادت الى انهيار مصداقية القيم والمواثيق الدولية، واهم مظاهر التحولات العالمية العميقة هو ان فلسطين الان اصبحت قضية الغرب الاولى حيث الكوفيات والاعلام الفلسطينية تملأ شوارع لندن وباريس ومدريد وواشنطن وبرلين ووو، مما ساهم بإعادة فلسطين الى مكانتها الاولى لدى دول المنطقة التي دخلت في مرحلة من المراجعات الدقيقة بعد سنوات من الترف السياسي والنزعات الهامشية والاهلية بين الاخوة الاعداء.

            اجتماع وزراء خارجية مصر والسعودية والامارات وقطر والاردن وفلسطين يوم الخميس الماضي في الرياض تطور بالغ الاهمية، ونتطلع الى قمة عربية طارئة مصغرة من اجل بلورة توجهات حازمة تلاقي التحول في موقف الرئيس الاميركي من اهوال غزة والحذر الشديد من جبهات لبنان وسوريا والعراق واليمن، ولا بد من توجيه الشكر الى مدير وكالة المخابرات الاميركية وليم بيرنز على مقال التحولات العالمية العميقة وعلى الدقة والوضوح والصدق مع قادة وشعوب الشرق الاوسط الذي يعتبره حاليا اكثر تشابكاً وانفجاراً من اي وقت مضى ويواجه مخاطر غير مسبوقة منذ اربعين عاما.