بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 أيار 2022 12:07ص نحو ويستفاليا جديدة

حجم الخط
شكّلت الأزمة الأوكرانية اختباراً قاتلاً لما عُرف بالنظام الدولي،  وربما تصبح الحرب التي تتمدّد تباعاً نحو التخوم الشرقية لحلف شمال الأطلسي الفصل الأخير في عمر هذا النظام والشاهد على إعلان نهايته. هشاشة النظام الدولي لم تكشفها العملية العسكرية فالظروف التي سبقت الحرب أظهرت عجز أقطاب هذا النظام وفي مقدّمهم الولايات المتّحدة الأميركية عن ضبط التصعيد واستيعاب التوتر وإنتاج عناصر استقرار قادرة على وقف الخلل ومعالجة الهواجس. ما جرى كان عكس ذلك تماماً. عمل القيّمون على النظام الدولي وأصحاب قراره قبل إندلاع الحرب على اختبار تصميم روسيا على خوض التّحدي واستمروا بعد إندلاعها في اختبار قدرة النظام على تأديب من تجرأ على رفض الرضوخ له. غُيّبت الأمم المتّحدة كمنظّمة دولية معنيّة بالأمن والسلام الدوليين والتي درجت منذ تأسيسها على تأمين غطاء الشرعية الدولية لارتكابات وتجاوزات القوى الغربية الفاعلة، فيما فشلت الولايات المتّحدة في بلوغ النتيجة المتوخاة من الإختبارين حيث بلغت الأمور نقطة اللاعودة وأضحى الخروج من المأزق دونه تنازلات مستحيلة.
لقد أدار النظام الدولي العديد من الأزمات والملفات وصاغ نهاياتها الحزينة والمجحفة بحق الشعوب عبر قرارات أنتجتها المؤسسات الأمميّة التي أرساها، منذ تقسيم فلسطين مروراً بغزو العراق مروراً بأفغانستان ويوغوسلافيا وعِبر كلّ الهندسات الأمنية والسياسية  والخرائط الجديدة التي رُسّمت وفقاً لمصالحه  عقب انهيار الإتّحاد السوفياتي. وقد استُكمل هذا المسار بقلب الأنظمة السياسية التي ساهم النظام عيّنه بإنتاجها وتدمير الإقتصادات الوطنية وتعميم الفوضى العارمة عبر إدخال حركات التطرّف الديني والمذهبي إلى صفوف المعارضات الوطنية بعد تسليحها وتدريبها. أليس هذا واقع الحال في تونس والسودان وليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان؟ أليس هناك دول عديدة في أفريقيا وأميركا اللاتينية أُدخلت في غياهب التخلّف والنسيان والإقتتال الداخلي  إلى آجال غير معروفة لسرقة ثرواتها وإقصائها عن أي دور يفرضه موقعها الجغرافي أو ميزات جيوسياسية أخرى؟ ألم تكن جمهورية مصر العربية وتركيا على لائحة الدول المرشّحة لمشاريع الفوضى والتقسيم ودائماً بتجنيد الفصائل الإسلامية المتطرّفة وصياغة خارطة طريقها للوصول الى السلطة عبر إنتخابات مشبوهة تحت مسمّى «دمقرطة الأنظمة»؟  أليست المملكة العربية السعودية دائماً في عين العاصفة فيما يتسابق أركان المجتمع الدولي على تسويق الإتّفاق النووي على أنه الخيار الوحيد لمراقبة صعود ايران النووي والحفاظ على الاستقرار الاقليمي فيما يتغاضى عن إرتكابات ميليشياتها المذهبية في المنطقة ويتجاهل في الوقت عيّنه معاناة الشعب الإيراني في أبسط مقوّمات الحياة المعيشية وحقوقه السياسية؟ لقد توسّل النظام الدولي خيار الصراعات، بين الدول المتجاورة أو داخل كلّ منها، على خلفيات مذهبية وقومية  في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا  للحؤول دون صعود قوى إقليمية يمكن أن تُحدث تعديلات في ميزان القوى القائم.
ما جعل النظام الدولي يتصدّع في أوكرانيا أولاً هو صعوبة تحقيق إصطفاف أوروبي بسبب تموّضع الحرب داخل القارة الاوروبية، مما جعل كلّ عناوين الإجماع السابقة، كمكافحة الإرهاب والاسلاموفوبيا التي كانت توقظ المخاوف الغربية خارج الإستثمار، وبما جعل لكلّ دولة حساباتها وهواجسها الخاصة ومحاذيرها من التدخّل المباشر، وثانياً إستحالة تحقيق أي تجاوب حقيقي من خارج القارة الأوربية نظراً  لتشعب الصراع وتداعياته على العلاقات الدولية بشقيّها الإقتصادي والسياسي، وثالثاً وهو الأهم والمستجدّ تحوّل الصراع الى صدام دولي واضح واستشعار عدد من الدول أنّ اللحظة المناسبة قد حانت للتمرّد على النظام الدولي القائم وإشهار دورها كقوى إقليمية وازنة لها موقفها من تداعيات الحرب في أوكرانيا وقادرة على لعب دورها الإقليمي وتحمّل مسؤولياتها.
أليس الفشل في وقف الحرب التي دخلت شهرها الرابع من غير أن يلوح بصيص أمل حول نهايتها، وتحوّل أوروبا من نموذج للأمن والأمان الإجتماعي الى البحث عن حلّ لإخراج الحبوب الاوكرانية بأسرع وقت ممكن عبر البحر الأسود ومنع حدوث تسونامي غذائي مظهراً من مظاهر سقوط النظام الدولي؟ أليس الموقف التركي الرافض لإنضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو تحت عنوان محاسبة الدولتين على موقفهما من دعم حزب العمال الكردستاني وتطوير الموقف بالإعلان عن حملة عسكرية في الشمال السوري بالرغم من تحذيرات واشنطن وموسكو دليلاً على تحوّل النظام الدولي الى نوع من اللامركزية المدمّرة؟ أليس التطوّر في العلاقات والشراكات العربية التركية والرفض الخليجي لدخول الصراع من بوابة العقوبات على الطاقة الروسية تمرّداً غير مسبوق على القيود الأميركية؟ أليس إعلان الإمارات ومصر والأردن عن شراكة صناعية تكامليّة تشمل الزراعة والأغذية والأسمدة، والأدوية، والمنسوجات، والمعادن، والبتروكيماويات، وإعلان المنظّمة العربية للتنميّة الزراعية في جامعة الدول العربية عن البرنامج العربي المستدام للأمن الغذائي بداية ليقظة عربية إفتقدناها لعقود من الزمن؟ وفي النهاية أليس تحوّل المملكة العربية السعودية الى دولة رائدة في مجال مكافحة التصحّر دليلاً على أننا أصبحنا في زمن آخر؟
مع تصدّع النظام القديم الذي أنتجه صلح وستفاليا في العام  1648 أمام تداعيات الصراعات الدينية والقومية والهجرة الجماعية، وتفشّي المجاعة وإنهيار المدينة كمتّحد حداثي إجتماعي تعدّدي، وارتفاع الأصوات وظهور العديد من الآراء التي تدعو إلى تبنّي أعراف جديدة في التعامل مع مختلف الأحداث أو الحروب، ألا  يقف العالم على أبواب الإنتقال إلى وستفاليا جديدة؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات
Twitter: @KMHamade
khaledhamade@rfcs-lb.org