بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 شباط 2021 12:00ص أوراق بيروتية (4) كيف ضاعت أوقاف زاوية الإمام الأوزاعي وأوقاف مقامه

حجم الخط
كان والدي رحمه الله يروي أن أباه علم بشراء بعض التجار قطع أرض في محلة الأوزاعي فسأل نسيبه مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري المتوفى سنة 1905م عن ذلك واستمزج رأيه بشراء قطعة منها فنصحه المفتي بعدم الشراء لأن الأراضي المذكورة موقوفة لا يجوز بيعها ولا التصرف بها لغير وجوه البر والخير الموقوفة لأجلها. يذكر ان جريدة «ثمرات الفنون» نشرت سنة 1906م تحت عنوان «أوقاف الأوزاعي» رسالة تشير الى ان الأراضي المذكورة موقوفة بموجب إعلام شرعي مصدّق من باب المشيخة الإسلامية العليا ومثبتة بأحكام من محاكم المتصرفية. وحذّرت الصحيفة من المساعي التي كانت دائرة بترويج مبيع بعض هذه الأراضي الموقوفة. وأن تلك الأراضي تمتد من أراضي الغديـــــــــر ووطا الطينة الى البحر المالح، ومن ضمنها سهل بئر حسن. كما طلبت إدارة الويركو سنة 1902م من كل من يدّعي التصرف بقطعة من تلك الأراضي إبراز أوراقه الرسمية. واستمرت النزاعات حتى سنة 1953م عندما تألفت محكمة استثنائية أصدرت سنة 1955م حكماً مطوّلاً (في 510 صفحات) فيما عرف بقضايا الرمول حلّت بموجبه الخلافات حول ملكية الأراضي التي عرف قسم كبير منها بمحلة الأوزاعي. وتشاء الأقدار قديماً أن يستقر الإمام الأوزاعي في بيروت مدافعاً عن المظلومين ومتحدّياً الولاة والمتسلّطين. وأن يدفن في قرية حنتوس في المحلة المنسوبة إليه اليوم. وتشاء الأقدار حديثاً بأن يلجأ العديد من الفقراء للسكن بجوار مقام الإمام في بيروت وقد عمّروا المحلة بالبناء والسكن والتجارة، وهي كرامة من كرامات الإمام الذي دافع عنهم في حياته وأمنّ لهم سكناً بجواره بعد مماته في أراضٍ موقوفة على وجوه الخير والبر.

أوقاف زاوية الأوزاعي وأحكارها

لا تتناسب الأوقاف التي أرصدت لزاوية الإمام الأوزاعي في السوق الطويلة ولا الأوقاف التي أرصدت لمقامه في محلة الأوزاعي الحالية، مع ما كان للأوزاعي من مكانة ولا مع ما يظهره بعض البيارتة من محبة وتقدير له. أخبر الرحالة النابلسي سنة 1699م بأن الأوقاف الكثيرة التي كانت مخصصة للزاوية قد ضبطت مع أوقاف الساحل الشامي. وقد قرأنا أنه في 25 جمادى الأولى 1263هـ/ 1847م اشترى مصطفى شاتيلا جلّ تين بحي العقال من كاترينا شيبان لبس «وقد أقرّ المشتري بأنه رتب على الجلّ عشرة قروش سنوياً على سبيل الحكر لزاوية الإمام الأوزاعي». وقرأنا في وثيقة 19 ربيع الثاني 1282هـ/ 1865م أن من ضمن تركة فاطمة محمد البنداق «قبو قبلته وقف زاوية الأوزاعي...» ولم نتبيّن ماهية الوقف المذكور ولا يعرف مصيره؟؟ وقرأنا في وثيقة 2 صفر الخير 1286هـ/ 1869م ان مصطفى صبح أشترى من علي محمد البنداق دارَيْن يحدّ إحداها زاوية الأوزاعي «وان المشتري أخذ علماً بما هو مرتب على الدارين وقدره عشرون قرشاً في رأس كل سنة حكراً لجهة زاوية الإمام الأوزاعي...» وقرأنا في وثيقة غرة رجب 1292هـ/ 1875م التي وقف فيها مفتي بيروت الشيخ محمد حسن المفتي (الطرابلسي) الأشرفي داره وما يتبعها الكائنة في محلة عين الباشورة، وقد نصّ في وقفيته عدة شروط منها «أن يدفع في كل سنة مائة وثمانين غرشاً الى الشيخ أحمد الزاهد في كل شهر 15 غرشاً أجرة 12 ختمة في كل شهر ختمة يقرأ في كل يوم جزءاً واحداً في الدار ويهدي الثواب للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته وأصحابه ولحضرة سيدنا الإمام الأوزاعي ثم لروح الواقف وروحي والديه وجميع أرواح المسلمين...». ولو لقي بيت الأوزاعي اهتمام إدارة الأوقاف لكانت حافظت عليها ولا سمحت بهدمه باعتباره أقدم بيت بني في بيروت سكنه الإمام الأوزاعي وبقي كما كان عند وفاته حتى أوائل عهد الانتداب.

وقد أصابت الحرب الأهلية الجامع فلحقه خراب ثم صار ترميمه وتجديده ولكن بدلاً من إعادة بناء جدرانه بالحجر الرملي المشابه لقبة ابن عراق المواجهة له، جرى تغطيتها بالبلاط الذي طليت به جدران الأسواق الجديدة وظهر كأنه جزء منها بحيث لم يعد يظهر ان في الموقع مسجداً إلا من لوحة صغيرة بحاجة لمجهر لقرائتها؟؟ (جرى تكبيرها مؤخراً ولكن لم يبدّل الحجر الرملي بالبلاط).

أوقاف وأحكار على مقام الأوزاعي

سجلت سنة 1843م في أول سجل للمحكمة الشرعية في بيروت الأحكار بعدة قروش المرصدة للمقام على بعض العقارات قبل السنة المذكورة وهي: أحكار على حارة بني بيضون وعلى مصطفى وسعيد منيمنة وجملول البشتاني وبستان بيت الغول وعلي بن قريطم وبني الأسطة يوسف الحلاق وعلى دور علي آغا متسلم بيروت الأسبق ودار بني الشدياق قرب الدركاه ودار بني محيو وقد بلغ مجموع ريع هذه الأحكار خمسة عشر قرشاً فقط لا غير.. وهذا كل ما منّ تجار البيارتة على مقام الأوزاعي؟؟

إلى أن قامت خديحة بنت المرحوم حسين بيهم ابن ناصر العيتاني (شقيقة عمر وعبد الله ومصطفى) ممثلة بوكيلها عبد العفو ابن عبد القادر ابن الشيخ فتح الله قرنفل بوقف دكانتين في سوق الحياكين قرب باب الدركاه النصف على مقام سيدنا الإمام المجتهد عبد الرحمن أبي عمرو الأوزاعي لإقامة الصلاة وذكر الله والنصف الثاني على مسجد زقاق البلاط وذلك بموجب وقفية مؤرّخة في 15 شعبان المعظم سنة 1299م/ 1882م.

الأمير يونس الشهابي يبني المقام ويوقف له قطعة أرض

أما بناء المقام فقد أماطت عنه اللثام وثيقة شرعية نظمت لدى إبراهيم المولى الخلافة (القاضي الشرعي) في بيروت بتاريخ 11 ربيع الأول سنة 1156هـ/ 1743م جاء فيها «بمجلس الشرع الشريف ذي المقام المنيف العاري عن الزيف والتحريف بمدينة بيروت المحمية أجله الله تعالى لدى الحاكم الشرعي المشار إليه أعلاه دام فضله وزاد علاه، لما علم جناب عمدة الأمراء الكرام ونخبة الأماثل الفخام الأمير يونس بن الأمير عباس بن الأمير أحمد الشهابي بأن الدنيا دار مكر وخداع وملتقى ساعة لوداع قدم لنفسه وعمل يوم حلوله برمسه قد بنى مقام الإمام المجتهد إمام الشام وشيخ المحدثين الفخام سيدنا وسندنا الشيخ عبد الرحمن الأوزاعي قدّس سرّه العالي الواقع خارج بيروت وشهرته تغني عن تعريفه، ودائرة تحتوي على قبو سفلي معقود بالمؤن والأحجار بابه من داخل صحن المقام وعلى سلم حجر يصعد بها الى فسحة سماوية تحتوي على أودتين إحداهما معقودة بالمؤن والأحجار والأخرى مسقوفة بالأخشاب وأمامها رواق صغير مسقوف بالأخشاب ومطبخ... مُعد لقضاء الحاجة، وقف ذلك لسكن المتولي والناظر وتربدار المقام الشريف المشار إليه ونصب جناب عمدة المشايخ الكرام وملاذ الأولياء الفخام الشيخ أحمد بن الشيخ سعيد الرفاعي متولياً وناظراً وتربدارية لإقامته للخدمة المعينة عليه وعلى من بعده من أولاده وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده الأرشد فالأرشد ممن يراه الحاكم الشرعي أهلاً لذلك. ثم وقف الواقف المذكور أدامه الله كامل قطعة الأرض الجارية بملك الواقف المذكور بموجب حجة شرعية مخلّدة بيده قبلة المقام الشريف المشار إليه وشرقاً بستان ملك الواقف المذكور وشمالاً الناعورة وغرباً البحر المالح تتمة الحدود بجميع ذلك ولوازمه وما يعرف به ويعزى إليه شرعاً من جميع الجوانب والجهات وقف ذلك على المسجد الشريف والمقام المنيف للإمام المشار إليه يصرف ريع تلك الأرض على لوازم المسجد الشريف والمقام المنيف من زيت وتعمير وترميم وبقية لوازمه وما يتبقى من الفضلة تكون للمتولي والناظر نظير أتعابه وبعد تمام الوقف وانبرامه نصب الواقف أثابه الله تعالى الشيخ أحمد المومى إليه متولياً وناظراً على قطعة الأرض المذكورة ومن بعده على من يكون متولياً وتربداراً على المقام المشار إليه وتخلى له التخلية الشرعية ثم قام عن المجلس وغاب ثم حضر وأراد الرجوع بالوقف متمسكاً بقول الإمام الأعظم بأن الوقف قبل الحكم والتسجيل غير لازم وعارضه بذلك المتولي متمسكاً بقول الصاحبين بلزوم الوقف وكثر بينهما الخصام والنزاع لدى مولانا الحاكم الشرعي الموقع اسمه الكريم وختمه أعلاه دام علاه فتأمل مولانا المومئ إليه في المصلحة تأملاً شافياً فرأى المصلحة متعينة في الحكم بالوقف رعاية لجانب الله وقد حكم بصحة هذا الوقف ولزومه في خصوصه وعمومه عالماً بالخلاف بين الأئمة الأحناف ومنع الواقف من التعرّض لذلك بعد ذلك حكماً ومنعاً صحيحين شرعيين مرعيين فبذلك صار الوقف المذكور محرماً بحرمات الله تعالى فمن يدل بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ان الله سميع عليم حرر في الحادي عشر خلت من شهر ربيع الأول سنة ألف وماية وستة وخمسين من هجرة من له كمال العز والشرف «شهود الحال أبو صالح شقير. أبو مصطفى جوجو. أبو عباس نجا. جناب السيد عمر آغا الدزدار. جناب إبراهيم آغا. الشيخ مصطفى سعادة. الشيخ علي فتح الله. السيد عبد القادر القصار. السيد محمد شهاب الدين. السيد قاسم المحب».

ويثبت من هذه الوقفية أن باني مقام الإمام الأوزاعي هو الأمير يونس ابن الأمير عباس ابن الأمير أحمد الشهابي كما بنى دائرة تحتوي على قبو سفلي معقود بالمؤن والأحجار بابه من داخل المقام وعلى سلم يصعد بها الى فسحة تحتوي على غرفتين واحدة معقودة بالمؤن والأحجار والثانية مسقوفة بالأخشاب أوقفها الأمير لسكن المتولي والناظر والتربدار، كما وقف قطعة أرض على المسجد والمقام من زيت وحصر وتعمير وترميم...

كيف تحوّل سهل الإمام الأوزاعي من وقف إلى ملك خاص

وتبيّن من الحكم الصادر سنة 1955 بقضايا الرمول انه بتاريخ 13 شوال سنة 1272هـ/ 1856م اشترى الشيخ مصطفى عبد القادر الرفاعي مـــن الأمير فندي أسعد قعدان شهاب زوج عليا بنت الأمير بشير وبوكالته عن الأمير بشير قاسم شهاب جميع الأراضي المعروفة بسهل الإمام الأوزاعي بموجب حجة شرعية وكانت تلك الأراضي محدودة قبلة بأراضي الغدير وشمالاً بوطا بطينا وشرقاً بالطريق السالك الى صيدا (طريق صيدا القديمة) وغرباً بالبحر المالح بثمن قدره عشرون ألف غرش ومصادق على الحجة بإمضاء وختم قاضي بيروت السابق السيد محمد حميد وبشهادة شخصيات عديدة من رجال الدين والدنيا كالمشايخ أحمد الصلح ويوسف الأسير ومحيي الدين اليافي والحاج عبد الله بيهم ومحمد البربير ونعوم تابت وسواهم وجرت استنادا الى تلك الحجة عدة عقود بيع وقسمة من بعض ورثة مصطفى الرفاعي تناولت أسهماً شائعة من سهل الأوزاعي الى سليم واسكندر طراد وشربل التحومـــــي ونخلة سرسق وغيرهم.

يذكر أن الأمراء الشهابيين كانوا يملكون مع الأمراء الارسلانيين الساحل الغربي، وعلى أثر خلافات حصلت فيما بينهم تصالحوا فخرجت الأملاك الواقعة في الشيـــــــــاح وبرج البراجنة وقسم من تحويطة الغدير من نصيب الشهابيين. وكما حصل بالنسبة لقصر بيت الدين من بيع سرّي من الأمير بشير لزوجته ثم وقفه صورياً في المحكمة الشرعية في بيروت كذلك أوقف الأمير بشير في 3 صفر 1256هـ/ 1840م أملاكه في البرج والغدير وغيرها في محكمة دمشق كما قام بنقل أملاكه في بلاد جبيل لابنته عليا. وكان مما أدلى به الأمير فندي والست عليا في النزاع وأثبته الحكم بأن الأراضي المدعوة «بسهل الإمام الأوزاعي الكائنة في مقام حضرة سيدنا الإمام الأوزاعي كانت بعهدة الأمير بشير بوجه التملك منذ سنة 1236هـ/ 1820م وما بعدها وهو يديرها ويؤجرها للطالبين وبناء لرغبة الشيخ مصطفى الرفاعي تربدار المقام قد أجّرها له سنة 1254هـ/ 1839م على سنتين بمبلغ 3800 غرش وأن الشيخ مصطفى تغلّب على الأرض وأدارها حتى سنة 1259 هـ/1843م، وفي هذه السنة واستناداً الى القول المجرد قيدها (أي الشيخ مصطفى) بدفتر الوقف بعد أن كان مستأجرها». كما زعمت بلدية البرج في الدعوى بأن الأمير بشير باع الأراضي «بالوجه القاسي وتحت الضغط والإكراه».

وأفادت الوثائق أن حدود تلك الأراضي عند المغارة التي تبعد مائة ذراع للجهة القبلية من مقام الأوزاعي وأن الأراضي جميعها كانت في سنة 1864م تسمّى كروماً وأنها وفقاً للمستندات القديمة وأقوال بعض المستشرقين كانت مغروسة ومزروعة شيحاً وتوتاً وشعيراً وبطيخاً وأن الأمير بشير كان يزرعها قمحاً وشعيراً وترمساً وعدساً وكان عليها خولي. كما يتبيّن من حيثيات الحكم بأن ديوان التمييز في جبل لبنان استثنى في آب 1295 (مالية) ميناء الجناح من التملك باعتباره ليس ملكاً لأحد، كما استثنى مائة ذراع إسطنبولي تبدأ عرضاً من الجنوب الى الشمال من الحائط الشمالي لمقام شيخ الضهرة وتنتهي بنهاية مائة ذراع تبدأ من الشرق من طريق صيدا وتنتهي غرباً بالبحر لتكون ممراً لأهالي الشيــاح وحارة حريك يمرّون عليها «لتناول ما يلزمهم من حطب وتبن وخلافه مما يمرّ الى ميناء الجناح من واردات البحر». وكانت ما عرف بالمدورة ميناءً بحرية طبيعية قديمة للمراكب الشراعية.

وكان شكور باشا المصري قد أسّسَ في مصر «شركة المباحث والأعمال المصرية» وجرّب شراء القسم القبلي الغربي لبيروت لإنشاء حيّ جديد إلا أن القانون العثماني لم يسمح للأشخاص المعنويين بالتملك، فاستعانت الشركة بأشخاص طبيعيين كحبيب غانم وإبراهيم تابت ونخلة سابا إلاّ أن الحرب الكبرى حالت دون إتمام المشروع.



* مؤرخ