بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 شباط 2022 12:00ص أوراق بيروتية (51): غابت الأسماء والمسمّيـات الجنينات والطليبيّات والثكنات والأتونات وشويربات والقبيبات

حجم الخط
حانت الفرصة للجان المسح العقاري، التي ألّفتها سلطة الانتداب الفرنسي، لتغيير الجغرافية توصلّاً الى تغييب التاريخ فألغت أسماء محلات الشيخ رسلان والدركاه والأربعين والتوبة والفاخورة وشويربات والثكنات لتحمل محلها كلها اسم محلة المرفأ، وسمّيت دار المريسة بعين المريسة (مع ان اسم دار المريسة بقي كذلك في سجلات النفوس)، وجرى تغييب اسم قبيبات العروس لتحلّ محلها محلة القبيات من شمال لبنان («فشو جاب لجاب» كما تقول العامة) كما ظهر في المخطط الذي رسمه المهندس يوسف شريف شهاب في المنطقة رقم 79 (h 6).

ولم يتبيّن وجود أصل لتسمية تلك المحلة بالقبيات؟ وإذا كانت خرائط بيروت وأسماء مناطقها ومحلاتها لم تشر الى الطراز المشار إليه من القباب فلأن تاريخ بيروت لم يكتب أو غُيّب وأهمل قصداً منذ بدء عهد الانتداب الفرنسي، مع الإشارة الى أن أقدم خرائط بيروت تلك التي رسمها الأسطول الإنكليزي عندما حاصر بيروت وقصفها سنة 1840م لإخراج جيش إبراهيم باشا منها كانت عامة لم تذكر تفاصيل الأماكن التي سبق للوثائق أن ذكرتها وحدّدت مواقعها.

ومما أهملته أعمال المسح العقاري بما لا نظن أنه من قبيل حسن النيّة، مزرعة الجنينات ومزرعة الطليبيّات في رأس النبع الشرقي ومن ضمنها مزرعة القوبرية.

الجنينات

الجنينة تصغير الجنة، والناس يستعملون الجنينة لبستان الفواكه والزهور، والجمع جنينات وجنائن. عرفت بيروت القديمة محلة بإسم الجنينات كحدائق لزرع الشتول والتعليم. وقلما نجد جنينة داخل المدينة القديمة لا سيما بعد تكاثر السكان وتزايد العمران وضيق المساحة، إلا ان الوثيقة المؤرخة في 10 ربيع الأول 1287هـ/ 1870م تذكر بيع سليم ثابت الى إسكندر العشي ثمانية قراريط من الدار الكائنة في محلة شيخ السربة داخل المدينة المشتملة على خمسة بيوت و«جنينة» مصوّنة تحتوي على أغراس متنوعة.

ورد في جردة أوقاف جامع السراي ذكر لحديقة بيت الدنا في حارة اليهود لصيق حائط السراي. وفي الوثيقة المؤرخة في 6 ذي الحجة سنة 1242هـ/ 1827م باع إبراهيم محمد الحشاش حصته في الجنينة المعروفة بجنينة الحشاش المشتملة على أرض وأغراس وبيت مسقوف بالجسور والأخشاب الملاصق لفرن الحشاش قرب زاوية الأوزاعي وقبة العشرة باطن المدينة يحدّها شمالا جنينة ياسين.

وتشير الوثيقة رقم 411 لسنة 1287هـ/ 1870م ان حي الجنينات كائن في راس النبع الشرقي خارج المدينة. أما الوثيقة المؤرخة في 8 رمضان 1284/ 1868م فتفيد مبايعة جلّين متلاصقين مشتملين على أغراس تين وزيتون وتوت كائنين في «مزرعة الجنينات»، وتذكر الوثيقة المسجلة سنة 1263هـ/ 1847م بيع قطعة أرض من بستان طراد الكائن بمزرعة الجنينات قرب بئر شريفة المشتملة على أشجار وزيتون وتوت وتين شتوي.

ورد في الوثيقة المؤرخة في 2 ذي الحجة 1292هـ/ 1876م انه ثبت لمنصور الشويفاتي بذمة إبراهيم 1258 قرشا وربع من أصل ثمن ربع العودة الكائنة في محلة الجنينات التي كان منصور شريكا بها حسب اصطلاح شركة «المساقاة»، والمساقاة عمل العامل في الأرض بما فيها من شجر وثمر مثمر كالتفاح والرمان ومزروعات كالحمص والفاصوليا والباذنجان بالسقي والتعهد مقابل الحصول على قدر معلوم من الثمر.

وعندما أزيل سور المدينة وتوسّع السكان خارجه وإقامة الفيلات والبيوت التراثية ما أدّى الى إنشاء جنينة أمام البيت مزروعة بأنواع الزهور وبعض الأشجار المثمرة كالليمون والأكدنيا ودالية وبلحة وبركة ولا يزال بعض هذه الجنائن موجود، انموذجها جنينة بيت مختار مخيش في زقاق البلاط (الرفاعي).

الطليبيّات والقوبرية

تقع الطليبيّات في رأس النبع الشرقي، يحدّها نهر بيروت، وترد في الوثائق بإسم محلة أو مزرعة أو أرض. والطليبيات وفقا للبستاني من الطليب أي الطلوب قطعة الأرض الكثيرة الطلب على الماء. وقد تأتي مع الطليبيات الإشارة الى محلة القوبرية من قوّب الرجل الأرض حفر فيها كالخرق المستدير لتصريف المياه.

بموجب الوثيقة المؤرخة في 26 صفر سنة 1266هـ/ 1849م باعت وردة ناصيف مطر الى غنطوس جدي العودة الكائنة بالطليبيات، يحدّها قبلة وقف بطرك الموارنة وشرقا نهر بيروت. وفي وثيقة مؤرخة في آخر شهر صفر سنة 1264هـ/ 1848م باع الأمير عبد الله ابن الأمير حسن الشهابي وولديه حسن وسليم الى جرجس الفيعاني أرض مفرزة من الجل الكائن بالطليبيات يحدّها غربا الطريق السالك لجهة قناة ماء الطليبيات وشرقا مجرى النهر. وفي 23 صفر سنة 1295هـ/ 1878م وقف نقولا خليل الدمشقي البستان الكائن في مزرعة الطليبيات في زقاق نبعة المطران في محلة رأس النبع الشرقي يحدّه قبلة وقف مار متر وشمالا الحاج مصطفى شباره وشرقا نهر بيروت والوقف للجمعية الخيرية الانجيلية في بيروت. وتذكر الوثيقة المؤرخة في أول شعبان سنة 1304هـ/ 1866م أراضي الطليبيات في مقاسمة تركة الحاج مصطفى إبراهيم شباره ومن ضمنها بستان في محلة القوبرية قرب نبعة المطران.

الأتونات

الأتونات جمع أتون، وهو لغة: حفرة من الأرض مربعة الشكل يبلغ عمقها نصف متر تقريبا يوضع فيها الكلس، والجمع أتاتين. والبيارتة يلفظونها يتون استعملوه لحرق الكلس وإعداده لخلطه مع الرمل في البناء وكانت توجد الحفرة في ورش البناء. وكنا قديما نشاهد الكلس يفور في الحفرة ثم يهدأ، وعرفنا فيما بعد سبب فورانه وانتقاله من chaux vive الى chaux eteinte. وتفيدنا الوثيقة المؤرخة في 18 شوال 1260هـ/1847 موقع الأتونات، ففي التاريخ المذكور اشترى مصطفى يحيى شاتيلا من وقف كنيسة الروم جل التين الكائن في أرض تين الرمل قريبا من الأتونات الشهير براس بيروت المشتمل على تين وتوت وأصول مقساس وعمار بيت. كما اشترى مصطفى شاتيلا المذكور في 15 شوال 1263هـ/ 1847م من سعيد يموت كرم التين المحتوي على جلّين مشتملين على أرض وغراس تين الكائن في تين الرمل المشهور براس بيروت بالقرب من الأتونات المحدودة قبلة الأودية وشمالا بني الصايغ وشرقا سيد أحمد زيتون وغربا ساقية الجنزير.

الثكنات/ التكنات

اختار إبراهيم باشا المساحة الواقعة بين شارع المصارف الحالي وشارع الكبوشية لإقامة ثكنات لعسكره تقيهم المطر لأن شتاء بيروت يختلف عن شتاء مصر، وبعد إزالة السور أصبح قسم من مساحة لثكنات داخل المدينة وقسم خارجها.

تشير الوثيقة المؤرخة في 9 محرم 1260هـ/ 1844م تفرّغ ناصيف إلياس ربيز الى أبنائه عن الدكان الكائنة في محلة الأمير قاسم باطن المدينة، يحدّها غربا أرض الثكنات. وقد سبق وأوضحنا ان محلة الأمير قاسم تقع بجوار جامع الأمير منذر. وتشير الوثيقة المؤرخة في 27 صفر 1281هـ/ 1864م مبيع علي مصطفى حماده وأمه الدار الكائنة في محلة الثكنات داخل المدينة يحدّها غربا بيت الشيخ عبد الهادي النصولي. وفي 10 ربيع الأول 1281هـ/ 1864م باعت فاطمة محمد قليلات قطعة أرض سليخ كائنة في محلة الثكنات داخل المدينة مساحتها مائتي ذراع، يحدّها شرقا بيت الحوت وغربا ملك سليم فرشوخ الى رمضان بن محمد عنتر دياب. وفي 29 صفر 1281هـ/ 1864م باع يحيى الموسوي عن ابنه الى عمر حسين الشخيبي الدار الكائنة في محلة الثكنات داخل المدينة. وفي 12 رجب 1284هـ/ 1867م باع يوسف الفداوي العليّة الواقعة علوي الدار الكائنة في محلة الثكنات داخل المدينة. وفي 4 شوال 1284هـ/ 1868م باع يوسف حسن الداعوق الى سعيد ديب الفداوي العليّة الواقعة علوي الدار الكائنة في محلة الثكنات داخل المدينة.

يذكر ان البيارتة يلفظون الثاء تاء وعندما بنوا بيوتهم خارج السور رفعوا فوق سطوحها ما عُرف بالتكنة (وهي القالب الهيكل الخشبي) الذي تثبت عليه قطع القرميد ويترك باب صغير يدخل منه الى التكنة عند الحاجة. وفي عين المريسة صندوقا فيه بعض كتب خالي منها كتاب «حسن الأثر فيما فيه ضعف واختلاف من حديث وخبر وأثر» للعلّامة الشيخ محمد الحوت، طبع في مطبعة الكشاف سنة 1934، ذكر في مقدمة الكتاب بعض مؤلفات الشيخ الحوت ومنها كتاب «شرح بيتي الموصلي». ولعالِم بيروت الشيخ أحمد البربير كتاب بعنوان «الشرح الجليّ على بيتي الموصلي» طبع سنة 1302هـ وأعاد الدكتور نسيب البربير طبعه.

بعد تداعي السور وإنطلاق السكان للبناء خارجه تبيّن ان قسما من أرض الثكنات كان خارج المدينة. ففي الوثيقة المؤرخة في 27 رمضان 1289هـ/ 1873م باع الاجزائي (الصيدلي) بطرس لوريلا وولده وأمه الى الراهب زكريا رئيس دير الكبوشية لجهة رهبنة الدير الجنينة المصونة في محلة الثكنات خارج المدينة المشتملة على أغراس متنوعة وبئرين لجمع ماء المطر، يحدّها قبلة وغربا الطريق السالك وشمالا بنيسيور وشرقا ملك رهبنة الدير بمبلغ ثلاثين ألف قرش (من المرجح أن تكون كنيسة الكبوشية الحالية قد بنيت على هذه الأرض).

شويربات

وردت في كثير من الوثائق محلة بإسم شويربات ويتبادر الى ذهن القارئ ان «محلة» تعني منطقة واسعة كما تعرف اليوم، والواقع ان بيروت القديمة داخل السور كانت مؤلفة من عدة محلات وأسواق متداخلة وقد تعتدي السوق دكانتين مثلا. لم يذكر أحد ما المقصود بشويربات وقيل انها اسم لإحدى القبائل العربية مشتقة من شاربوت صغيره «شويرب»، وهذه المحلة تحوي أكبر كثافة سكانية. فذكرت في وثيقة وقف البواب المؤرخة سنة 1230هـ/ 1814م وورد في الوثائق ان المحلة فيها الحمام الصغير الفوقاني وسوق الصاغة القديم وسوق العقادين وبركة السوق وقناطر بني دندن (موقع دائرة البريد) وسوق المصبغة وبيوت لعائلات الداعوق وسعادة وفتح الله المفتي وعبد الله عمر سلطاني وأبناء يوسف عز الدين ومصطفى زنتوت وعرابي خرما شقير ومصطفى الكنفاني وسعيد سربيه والشيخ سيد أحمد اللادقي ودكاكين حسن الجبيلي وبني حسين الشعار الخواجه وبني خالد يموت وبني كسبية والبدوي والقاطرجي والرشيدي وورثة يوسف حمود وإبراهيم عساف وحسن اللوز قرب زاروب الطمليس ودار موسى دراج مقابل زاوية الراعي وبني زريق والنجار ومكوك ودور بني العسيلي والعشي وجمعة دوغان وبني القحف وأبي صادق طباره وبني جاويش الخ..

القبيبات/ القبيات

كتبنا في «اللواء» 20/10/2018 عن محلة قبيبات العروس من محلة الخضر خارج بيروت، والقبيبات لغة تصغير قبة. واسم القبيبات قديم في بلاد الشام، ففي سنة 1421م شكّلت محلة القبيبات تجمّعاً منفصلاً عن دمشق وكانت هذه القباب مشيّدة من اللبن والطين وكانت القبة تعلو حجرة المسكن. ويقول عبد القادر قباني في ذكرياته التي نشرت سنة 1927م في مجلة «الكشاف» «أن البناية التي تعرف بقبيبات العروس هي مقسم الماء الوارد الى بيروت».

وظاهرة التنقل بين بيروت - دمشق قديمة العهد علماً بأن بيروت كانت تابعة لنيابة دمشق. فمن غير المستبعد أن يكون عدد من القبائل الكردية انخرط في جيش صلاح الدين الأيوبي وأن تستقر بعض الأسر الكردية في المناطق التي فتحها صلاح الدين وطرد منها الصليبيين كبيروت وبعلبك وطرابلس وعكار وحصن الأكراد.

أما إضافة لقب العروس الى القبيبات البيروتية فقد تكون تيمّناً بمئذنة العروس في الجامع الأموي، ويقول قتيبة الشهابي في «معجم دمشق التاريخي»: «أن المئذنة سمّيت بذلك لمظهرها عندما كانت تتلألأ بأنوار الفوانيس في المناسبات مما يجعلها تشبه العروس ليلة زفافها وتعرف بعروس الجامع وبمنارة العروس». فكانت محلة القبيبات البيروتية تتلألاْ بأنوار الفوانيس في مناسبات مماثلة.

* مؤرخ