بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 تموز 2022 12:00ص أوراق بيروتية (70).. أحمـــــاض بيــــروتيـــــــة

وثيقة أحماض من بيروت وثيقة أحماض من بيروت
حجم الخط
روى ابن إسحق أن ابن عباس كان إذا جلس مع أصحابه حدّثهم ساعة في القرآن والتفسير والحديث ثم يقـــــــول «أحمضوا بنا» أي خذوا فيما هو كالحمض من الأشعار وملح الناس لأن النفوس تسأم من ملازمة شيء واحد لحبّها التنقّل. فيأخذ في حديث العرب ثم يعود.
والنفس تنبسط بالمزاح، كما تنبسط بتعاطي الفاكهة، وفي ذلك إشارة الى أنه ينبغي أن يكون تعاطي المزاح كتعاطي الفاكهة آونة آونة لا دائماً وأبداً، ولذلك سمّت العرب المزاح بالأحماض، وأصل الأحماض أن الماشية ترعى من نبات حلو يقال له الخلّة ويقال إذا رعته: أخلت، فإذا سئمت منه انعطفت على نبات مالح يقال له الحمض لأجل أن تنشط الى العود لمرعاها الأول فإذا رعت الحمض يقال: أحمضت فالحمض لها كالفاكهة لنا (كنا صغاراً نسرّ بمضغ نبات الحمّيضة من كرم رحال زمان الرحلات المدرسية).

قال الله تعالى {وأنّه هو أضحك وأبكى وأنّه هو أمات وأحيا} فوضع الضحك بحذاء الحياة ووضع البكاء بحذاء الموت، وموقع الضحك من سرور النفس عظيماً ومن مصلحة الطباع كبيراً وهو شيء في أصل الطباع وفي أساس التركيب. ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمّي أولادها بالضحّاك وبسّام وطلق. وإذا مدحوا قالوا: «هو ضحوك السن»، وإذا ذمّوا قال هو عبوس وهو طالح وهو مكفهر أبداً وهو كربة. والناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزاح إلا بقدر. وقد ضحـــــــــــــك النبي صلى الله عليه وسلم ومزح، وضحك الصالحون ومزحوا. كان نعيمان يهذي للنبي ويضحكه بمزاحه. والمكروه هو إضحاك الناس بالكذب. والمزاح هو الانبساط مع الغير من غير إيذاء له ولا كذب، فإذا كان المزاح مشتملاً على أذى الغير أو على ألفاظ قبيحة أو إذا أكثر منه الإنسان، خرج عن المزاح وسمّي استهزاءً وسخرية ومجوناً. ومن المجون المحاكاة وهو أن تقول كما يقول الغير وان تفعل كما يفعل منتقصاً له كتعارجك تحكي الأعرج. وأهل الشام يسمّون الماجن مهرّجاً، وأهل مصر يسمّون الماجن بالمسخرة. وربّ مزاح يفضي الى صياح وحمل سلاح وسلب الأموال والأرواح، وربّ مداعبة تفضي الى محاربة، فإذا مزح الإنسان وجب أن يجتنّب الأذى وأن يتمثّل بعود الطيب الذي يحرق بالنار فلا يضوع منه إلا الشذى فليس العاقل من يجعل الخليل عدواً بل الذي يجعل العدو من الخلّان، قال الشاعر:
وليس كثيراً ألف خلّ وصاحب
وان عدوّاً واحداً لكثيرُ
*****
علاقة المزاح باللاوعي
لفرويد كتاب عن علاقة النكات باللاوعي يبيّن فيه كيف تشترك الجماعة في الضحك حين يغرق أحد أفرادها فيه كما يبكي الأطفال حين يبكي أحدهم. ولبرغسون كتاب يعزو فيه الضحك الى وضعية التناقض كحالة رجل أنيق يمشي الهوينا متكبّراً، وفجأة يقع، وبدلاً من الإسراع الى إسعافه نجد الكثيرين يستغرقون في الضحك. والنكتة ضرب من أحلى ضروب البديع، وقد يحتاج إدراكها الى فطنة وإلا خرجت باردة لا طعم لها وهي تضحكنا لأنها تفضح الخلل. والنكتة السريعة تضحكنا لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير مرتقبة. ولكل شعب نكاته ونوادره وأسلوبه الخاص في الدعابة، ولكل مدينة أو قرية في لبنان نكاتها المحلية ولا يمنع ذلك من وجود بعض عناصر مشتركة.
أرسل الشيخ محمد النصري الى مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله هدية من الليمون الطرابلسي مع رسالة من بيتين قال فيهما:
وبالقبول لما أهديه جد كرماً
فالعفو منك عن الأحباب مضمونُ
ودع لما قيل في الأمثال من قدم
هدية المقرف المسكين ليمونُ
فأجأبه فتح الله:
أهديتني منك ليموناً شفيت به
وزال داءٌ بقلب الصبّ مدفونُ
من كل ليمونة قد خلتها كرة 
من عسجدٍ لم يكن يحصيه تثمين
أو بدرة من نضار صرّ في ذهب
أو بدرَ أفقٍ له بالنور تزيين
أسنى الهدية ليمون حبيت به
مقداره من بحور الجيد مضنون
وإنني مرسل في ذلكم مثلا
«هدية المحسن المنّاح ليمون»
وإن شكري لها شكرٌ لمانحها
وشكرُ مانحها فرضٌ ومسنون
لا زلتَ بحر ندى يهدي جواهره
فضلا وما الدّر إلا فيه مخزون
الضّحيك ومجالس البيوت والمقاهي
كانت مجالس البيوت والسهرات مجالاً للبيارتة لتبادل النكات ورواية النوادر، كما حفلت جلساتهم في المقاهي بسرد الفكاهات المستمدة من واقعهم ومعاشهم، وقد جمعنا عدداً منها. وفي خزانتنا وثيقة مؤرخة في شهر رمضان سنة 1279هـ/ 1862م تفيد ان متري ابن الياس الحتحوت باع الى مارينه بنت جرجس الشامية داراً في حي عين الباشورة فقَبِلَ الشراء بالنيابة عنها «إبراهيم ابن موسى الضّحيك» ولا نعلم شيئاً عن هذا الضّحيك وعن سبب حمله هذا اللقب. علماً بأن الضحيك أتى على وزن فعّيل وهو غير معروف في الأوزان وان كانت العامة تستعمل عدة ألفاظ بالوزن المذكور مثل ضرّيب، درّيب، حييّك، شمّيم، دبّيك، بصّيم الخ.. مما يمكن اعتباره من (العامي الفصيح).
الزيت للإنارة لا للإستعارة
روى الحاج سعد الدين فروخ أن الحاج حسين بيهم اشترى شيئاً من الخيار لزوم صحن الفتوش في شهر رمضان، وشاهد قرب الجامع العمري فقيراً فأخذ الحاج بضع خيارات دسّها في جيب الرجل الذي همس في أذن الحاج: ما الدورة عالخيارات يا حاج الدورة عالخبزات، فنقده مبلغاً لشراء الخبز. وروى ان الحاج حسين كان يهدي سنوياً قلّتين من زيت الزيتون لإنارة مقام الإمام الأوزاعي وأتى من يقول للحاج بأن خادم المقام يأكل الزيت ولا يستعمله للإنارة. ولما كانت السنة التالية، أضاف الحاج حسين قليلاً من الكاز الى الزيت المعتاد. ولما قام بزيارة المقام قال له الخادم: زيت هذه السنة له طعم غريب يا حاج. فأجابه الحاج: لأنه للإنارة وليس للإستعارة.
من أول عزونه 
يقول البيارتة على لسان الحما: «شمس شباط لكنّتي (لحدّة الشمس) وشمس آذار لبنتي وشمس نيسان إلي ولشيبتي ففي نيسان تصير الدنيا عروس ويخففوا الغطا والملبوس». وحصل ان احدى العجائز خفّفت الثياب وجلست في حديقة بيتها تعرض جسمها للشمس، فأصيبت بنفخة، وعندما خرجت منها ريح قالت: عزونه، ثم خرجت ريح ثانية فقالت: عزونه، وكذلك كانت تردد بعد الثالثة والرابعة... وسمعت جارتها تنادي زوجها، وتبيّن ان الجار كان يقف في الجهة الثانية من رباعات الصبير، ففوجئت العجوز بوجوده ونادته قائلة: «وئي من أيمتى أنت هون؟» فقال: «من أول عزونه».
بين الأمير الجزائري والشيخ الكستي
قَدِم الى بيروت الأمير محي نجل الأمير عبد القادر الجزائري قصد الاستشفاء من مرضه وسكن في بيت بمحلة برج أبي حيدر، وردت عجوز يوماً الى دار الأمير حاملة صحن لبن رائب فقدّمته له بوجه الهدية وكذبت لديه زاعمة أن الشاعر الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي أرسلها رسولاً الى الأمير وحملها سلاماً له، فنظّم الأمير ثلاثة أبيات وأرسلها الى أبي الحسن على سبيل المداعبة وهي قوله:
أبا حسن بحق الود قل لي
فاني في المودّة غير رائب
أتتني من جنابكم عجوز
وفي يدها اللطيفة صحن رائب
وقالت مرسلي يهدي سلاماً
فما المقصود من هذي الغرائب؟
فبادر الشيخ الكستي للجواب عنها تسلية لخاطر الأمير باعتبار الظرف قابل للمزح والإنشراح بنهوض الأمير من مرضه وشفائه ومما قاله:
ألا يا ابن الأكارم والأطايب
ومن يهدي لزائره الرغائب
لقد دبّت إليك عجوز سوء
دبيب الأفعوان أو العقارب
وتزعم أنني أرسلت معها
لحضرتك العليّة صحن رائب
ولو أني بعثت إليك رسلاً
بعثت من الغوائي والكواعب
ولم أرسل عجوزاً دردبيساً
لها وجه كوجه القرد شاحب 
ولكن ساقها ابليسُ كيما
تحصل ما يحصّل في المثالب
ساعة الحساب وساعة الانتداب
كان الشيخ نجيب ناصر (أتينا في «اللواء» 11/11/2011 على بعض نوادر الشيخ سليم ناصر إمام السراية الصغيرة) يمضي فصل الصيف في بيت يملكه في محلة الأوزاعي، نهض صباح يوم فلم يجد درفتي الشباك، فصار يشتم ويتهم أحد الأشخاص من أصحاب السوابق بسرقتهما. وبعد مدة من الزمن توفي المتهم بالسرقة ولم يجدوا من يلقّنه عند دفنه إلا الشيخ نجيب فاستدعوه ووقف على قبره وقال: «إذا جاء الملكان وقالا لك يا كلـــب يا حرامي من سرق شباك بيت الشيخ نجيب قلْ لهم أنا»... والتفت الناس الى الشيخ قائلين له: «يا شيخ ما وقتها هلق». فقال: «بلى الآن وقتها. الآن بدهم يحاسبوه»...
{ اشتهر مصباح عبد الغني رمضان بأنه شاعر الظرف وقد خلّف كثيراً من شعره الذي يلعب به على الكلمات فيعطيها ما يريد من المعاني. حدث ان سلطة الانتداب الفرنسي أخّرت يوماً الساعة (ما أشبه الليلة بالبارحة) فقال:
يا لها ساعة نحس جعلت
طول أيامنا قصار
هل نرجّي الأمن من قوم وقد
سرقوا الساعة في نصف النهار
وكان الشاعر عمر الزعني قد غمز من قناة الانتداب عند إقامة ساعة النجمة فقال: يلعن هالساعة وهيديك الساعة.

* مؤرخ