بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تموز 2023 12:00ص الإمام الحسين وإعادة إنتاج الوعي

حجم الخط
لقد جاء الإسلام وفي رأس أولوياته أن يثبّت الوعي ويحرك العقول.. هو دعا الإنسان إلى أن يفكّر في كلّ شيء.. وكان عنوانه اقرأ.. والقراءة تعني الوعي.. أن تعي نفسك.. أن تعي الكون والحياة.. أن تعي الناس من حولك..
لقد واجه بكل حسم الذين جمّدوا عقولهم ووسائل المعرفة لديهم، ممن أشار إليهم الله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}. ممن راحوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.. ممن يفكّرون بجيوبهم وبمصالحهم بمواقعهم، لا بعقولهم..
وهو أراد للإنسان أن يكون حرّاً في تفكيره، بأن لا يستسلم لأفكار الآخرين.. أن لا يخضع لأي فكر.. حتى عندما يقلّد.. أن يعرف من يقلّد ويتبع في أيّ شيء.. وحذَّر من تلاعب الطغاة بالعقول وتعليبها، وتوجيهها في الوجهة الَّتي تخدم سلطتهم... وسعى لإزالة كلّ الأغلال التي تقيّد فكر الإنسان وحركته حتى لا يفكّر بحريَّة.
وإلى ذلك يشير الله بقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.
لقد جاء الإسلام ليحرّر الإنسان من أغلال الشَّهوات والأطماع والعصبيات والحساسيات والأنانيات التي تقيّد فكر الكثيرين من الناس وإيمانهم...
فالأمّة عندما تتحرَّك عقول أبنائها وتكون واعية مفكّرة متبصّرة متدبّرة متعلّمة، لن يستطيع أحد أن يسيطر على عقلها لكن العقل الحرّ.. العقل الواعي.. ولن يستطيع أحد أن يتحكَّم بقرارها ومصيرها..
ومن هنا كان جهد الطغاة والمستكبرين وكلّ الذين يتلاعبون بالعباد والبلاد، الإمساك بالعقول، وتجهيلها، أو تدجينها، وجعلها أسيرة ما يخطّطون وما يفكّرون وما يقرّرون.. فلا يصل من الفكر والمعلومات إلى الناس إلّا ما يريدون من خلال سيطرتهم على وسائل الإعلام والتّواصل ودوائر التثقيف والتوجيه والإفتاء والقرار الديني.. تنطق باسمهم وعنهم.. وتقوم بكل عمليات التشويش على العقول، والتعمية على أي حقائق لا تخدم مصالحهم.. ناهيك بتشويه صورة من يعارضهم في فكره أو يقف في وجه مشاريعهم.
وقد أشار القرآن إلى مشهد من ذلك عندما تحدث عن فرعون، فهو بعد أن استعرض قوته أمام الناس قال لهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.. أنا الذي أحدّد لكم فكركم.. أما الَّذين يخرجون عن إرادته في التفكير، كما فعل السَّحرة عندما آمنوا بموسى من دون إذنه، فجزاؤهم القتل والصلب والتقطيع.
لقد واجه الحسين أمثال هؤلاء الطواغيت ممن راحوا يتلاعبون بالفكر وبالدين وبمصالح الناس.. فحوّلوا خلافة رسول الله إلى ملك عضوض...

ثورة إعادة إنتاج الوعي المفقود

ومن هنا، انطلق الحسين (ع) بثورته ليغيّر هذا الواقع.. وقد كان الحسين (ع) يعرف أنَّ هذه الثورة قد لا تؤدّي إلى ما كان يصبو إليه من تغيير الحاكم.. وإعادة الحقّ إلى نصابه.. لكنّه كان متأكّداً من أنها ستساهم في إعادة إنتاج الوعي المفقود الّذي سمح بسكوت الأمّة على واقعها.. بحيث باتت لا ترى الحقّ يعمل به.. ولا ترى الباطل لا يتناهى عنه.. أمة ضاعت لديها المقاييس.. أمة يتلاعب فيها البعض بالدين إلى حدّ الحطّ من قدر عقول الناس وتسخيفها، بحيث صار يسمع فيها أن حجر بن عدي الكندي رضي الله عنه قتله معاوية رضي الله عنه... أو كما صاح عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي.. لكأنه يدعو إلى شن غارة على جماعة من المشركين والكافرين، فيما المقصود بالجملة ابن بنت رسول الله.. وسيد شباب أهل الجنة.. أو يصار إلى الاستهتار بأموال الناس وتفشي الفساد من خلال التلاعب بمقدرات الدولة الإسلامية وتعطيل القوانين...
لذا قال: «ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه.. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود...».
لقد أراد الحسين من خلال ثورته أن يحدث زلزلاً في العقول التي تخدّرت والقلوب التي تحجَّرت.. استعان بالكلمة.. وبقي حتى الرمق الأخير يحاور ويوجّه.. وعندما رأى أنَّ الكلمة وحدها لم تعد تؤثّر، مزجها بدمائه الطاهرة ودماء كلّ الذين معه.. وما سعى إليه الإمام تحقق.. فقد عادت جذوة الحياة إلى الأمة بعد أن كانت منطفئة حين كان حاضراً بينها. وما إن استشهد حتى توالت الثورات التي دكَّت العرش الأموي.. انتفاضة المدينة.. ثم ثورة التوابين.. وإلى ما هنالك من ثورات أخرى.. ولا تزال مفاعيل الثورة الحسينيَّة حتى اليوم تعطي أُكلها كل حين بإذن ربها.. وأيضاً الثورات الفكرية على الفكر المتحجّر...
إنَّنا أحوج ما نكون إلى الوعي بعدما بتنا نعيش في واقع تُزيّف فيه الحقائق والأشخاص والوقائع.. فلا يملك وضوح الصورة إلّا الذين يملكون الوعي..
إنَّ القيمة تبقى دائماً لأولئك الواعين الذين يستشرفون المستقبل في السياسة وفي الفتن التي يراد بها أن تحصل في واقعنا.. وهؤلاء الاستشرافيون هم من يستحقّون التقدير.. أما دعاة اللحظة والآن.. دعاة العصبيات والحساسيات، فلا بد من أن لا يكون لهم موقع في واقعنا...
في ذكرى عاشوراء، لنجدّد عهد الوفاء للحسين ولمن معه.. بأن نستهدي بروحه.. بعنفوانه.. بصلابته.. وحريته وكرامته.. ووعيه.. علينا دائماً أن ننتبه من أفخاخ الغش والخديعة التي تنصب لنا، وأن نحدّق دوماً بكلمة الإمام عليّ عندما يقول: «كلمة حقّ يراد بها باطل»..
لقد بات الكثيرون يستخدمون كلمة الحقّ، لا ليزهقوا باطلاً، بل ليزهقوا حقاً.. فكم من الثورات والتحركات والسياسات ظاهرها برّاق وجذّاب وعمقها باطل! وقد حذّرنا الله من الانسياق إليها، ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.