بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 حزيران 2019 12:05ص الدعاة للناس بعد إنقضاء شهر رمضان المبارك

العبرة في الإستمرار على الطاعة فهي دليل القبول والتوفيق

حجم الخط
جاء في الأثر: «من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة المعصية المعصية بعدها». فالعمل الصالح لا ينقضي بانقضائه، والانتقال من الطاعة إلى المعصية نذير عدم قبول الله للعمل، والعمل الصالح لا يتوقف في حياة المرء إلا بالموت.

وقديما قالوا العبرة بخواتيم الأعمال؛ وهذا ما ورد معناه في حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه، في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار.. الأعمال بالخواتيم».

وفي مسند الإمام أحمد أيضا، وصحّحه الأرناؤوط والألباني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: يوفّقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه».

والأمر هكذا، يحرص المسلم؛ على دوام الطاعة، وعدم انقطاعها، سواء في رمضان أو غيره من الشهور، وسواء كانت صوما، أو صدقة، أو قيام ليل، أو قراءة قرآن، أو عطفا على الفقراء والمساكين، أو أمرا بالمعروف، أو نهيا عن منكر، أو جهادا في سبيل الله، أو التماسا للرزق الحلال، وغيرها من أعمال صالحة. فكيف يجب علينا أن نكون بعد رمضان...؟!

وكيف نحافظ على ما قمنا به في شهر رمضان..؟!

خانجي

{ بداية قال الشيخ محمد خانجي إمام وخطيب مسجد قريطم: كعادته يأتي سريعاً ويمضي سريعاً، وها نحن قد ودّعنا شهر رمضان المبارك، بنهاره الجميل، ولياليه العطرة، وودّعنا شهرَ القرآن، والصبر والتقوى، شهرَ العِزَّة والكرامة والجهاد، شهرَ الصدقة والرحمة، شهرَ المغفرة والعتق من النار، رمضانُ سوق قام ثم انفضَّ، رَبِح فيه مَن ربح، وخَسِر فيه مَن خسر، فمَن كان محسناً، فليحمدِ الله، وليسألِ الله القَبولَ، فإنَّ الله - جلَّ وعلا - لا يُضِيع أجْرَ مَن أحسن عملاً، ومَن كان مسيئاً فليتبْ إلى الله، فالعُذر قبل الموت مقبول، والله يحبُّ التوَّابين، نسأل الله أن يغفرَ لنا ولكم ما سَلَف من الزَّلل، وأن يُوفِّقنا وإيَّاكم للتوبة النَّصوح قبلَ حلول الأجل.

نعم.. ولَّى شهرُ رمضان، ولا ندري أَنُدرك الشهرَ الآخر أم لا؟ {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى}..؟!

إنَّ لنا في انقضاءِ رمضانَ عِبرةً وعظة، فقدْ كُنَّا نعيشُ أيامَهُ فَرِحينَ متنعمينَ بها، ثُمَّ انقضتْ تِلكُمُ الأيامُ وكأَنها طيفُ خيالٍ، مضتْ تلكَ الأيامُ لِنقطَعَ بها مرحلةً مِنْ حياتِنَا لَنْ تعودَ إلينا أبداً، وإنَّما يبقى لنا ما أودعنَاهُ فيها مِنْ خيرٍ أو شرٍّ، وهكذا الأيامُ التي تمرُّ علينا تنقصُ منْ أعمارِنا، وتُقرِّبنا مِنْ آجالِنا، قال الحسن البصريُّ - رحمه الله: «ابنَ آدمَ، إنَّما أنت أيَّام، إذا ذهبَ يومُك ذهبَ بعضُك».

وأضاف: لقد كان الشَّهرُ الراحلُ ميداناً لتنافُسِ الصالحين بأعمالهم، ومجالاً لتسابُقِ المحسنين بإحسانهم، وعاملاً لتزكية النفوس وتهذيبها وتربيتها، لكن بعض الناس ما أن خرجوا من رمضان إلى شوَّال حتى خرجوا من الواحة إلى الصحراء، ومن الهداية إلى التِّيه، ومِن السعادة إلى الشقاوة؛ لذا كان الناس بعدَ رمضان على أقسام، أبرزها صِنفان، هما جِدُّ مختلفَيْن:

صِنف تراه في رمضان مجتهداً في الطاعة، فلا تقع عيناك عليه إلاَّ ساجداً أو قائماً، أو تالياً للقرآن أو باكياً، حتى ليكاد يُذكِّرك ببعض عُبَّاد السلف، وحتى إنَّك لتشفق عليه من شِدَّة اجتهاده وعبادته ونشاطه، وما أن ينقضيَ الشهرُ حتى يعودَ إلى التفريط والمعاصي، فبعدَ أن عاش شهراً كاملاً مع الإيمان والقرآن وسائر القُربات، يعود إلى الوراء مُنتكساً أو مرتدّاً - والعياذ بالله - وهؤلاء هم عبادُ المواسم، لا يَعرفون الله إلاَّ عند المواسم، أو عندَ نزول النِّقم بساحتهم، فإذا ذهبتِ المواسم أو زالت النقم، وحُلَّتِ الضوائق، ذهبتِ الطاعة مُولِّيةً، ألاَ فبِئسَ قومٌ هذا دِيدنهم.

وهناك صِنفٌ نقيٌّ نقاءَ رمضان، صفيٌّ صفاءَ الصيام، زكيٌّ زكاة رمضان، قوم يتألَّمون على فراق رمضان؛ لأنَّهم ذاقوا حلاوةَ العافية، فهانت عليهم مرارةُ الصبر؛ لأنهم عَرَفوا حقيقة ذواتِهم وضعفِها وفقرِها إلى مولاها وطاعته، وعلموا أنَّهم محتاجون إلى ربِّهم؛ لأنهم صاموا حقاً، وقاموا شوقاً، فلِوداعِ رمضان دموعُهم تدفق، وقلوبهم تشقَّق، فأسيرُ الأوزار منهم يرجو أن يطلق، ومِن النار يُعتق، وبركْبِ المقبولين يلحق، انَ السَّلفُ الصالح - رحمهم الله - حينما ينتهي رمضانُ يُصيبهم الهمُّ، ولِسانُ حالِهِم لسانُ الوَجِلِ الخائفِ أَنْ يُرَدَّ: هلْ تُقبِّلَ منَّا؟ فهمْ كما وصفَهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، يعملونَ الأعمالَ، ويخافونَ أنْ تردَّ عليهم، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسولَ اللهِ، {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هو الذي يسرِقُ ويَزنِي، ويَشربُ الخمر، وهوَ يَخافُ الله - عزَّ وجلَّ؟ قال: لا يا ابنةَ الصِّدِّيقِ، ولكنَّهم الذينَ يُصلُّون ويصومونَ ويتصدَّقون، وهمْ يخافونَ أَلاَّ يُتقبَّلَ منهم.

بخاري

{ أما الشيخ هشام بخاري إمام مسجد البسطا التحتا فقال: ها قد انتهى رمضانُ... فرأينا أناساً على العبادةِ استقاموا، وعلى عملِ الخيرِ والبرِّ استمرُّوا، وعلى جليلِ الطاعةِ داوموا، وهذا ديدنُ المؤمنين وهِجِِّيراهم، إذ المؤمنُ لا يعرفُ العبادةَ في زمنٍ، ثم ينفكُّ عنها، أو ينشطُ لها في أوان، ثم يَهجرُها، إذ المرادُ من العبدِ ما قصدَه الله من عباده فيما خَلقَهم له أن يَعبدوه وحده لا شريكَ له، وأنْ تدومَ عبادتُهم له؛ قال الله تعالى: {ُإِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين}، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. 

ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه..)، فليس للعبادةِ والاستقامةِ تاريخُ صلاحية، أو أوانُ انقطاع، أو زمنُ نهايةٍ، قبلَ أَنْ تضعَ الرُّوحُ عصى الترحالِ، أو تُسلِمَ الحالَ إلى باريها.

يقول الله تعالى: {ِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} هكذا يكونُ المسلِمُ مستمراً مداوماً متابعاً، لا يَروغُ روغانَ الثعالب.

ولذا نقول لأولئكَ الذينَ يعبدونَ اللهَ شهراً، ويهجرونَ العبادةَ أشهرا، أو يعبدونَ اللهَ في مكان، ثُمْ يَقلِبونَ العبادَةَ إلى معصيةٍ في مكانٍ آخرَ، نقول لهم إن المسلم يعبد ربَّه في رمضانَ وفي سائرِ الشُّهور، فرَبُّ الأزمنةِ واحدٌ وربُّ الأمكنةِ واحدٌ وربُّ الأقوامِ واحدٌ.