بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 آذار 2024 12:00ص شهرُ رمضان: شهرُ الصِّيامِ والتّكافل

حجم الخط
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون} صدق الله العظيم.
نحمد الله سبحانه وتعالى حمداً كثيراً على أنَّه بلّغنا شهر رمضان، لنحظى بما أودع فيه من العبادات والبركات والخيرات والعطاء.
أهميّةُ فريضةِ الصِّيام
ولعل أهمَّ ما أودع في هذا الشهر هو فريضة الصّيام، هذه الفريضة التي دعانا الله سبحانه وتعالى إليها وتحمّل عنائها والصّبر عليها، عندما قال لنا في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، ولقد ِأشار الله سبحانه وتعالى في الآية التي تلوناها إلى أهميتها لدى إشارته إلى أنَّ هذه الفريضة كانت موجودة لدى كلّ الديانات السماوية السابقة، وهو ما تشهد به النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل، وأنها السَّبيل لبلوغ درجة التقوى التي وعد الله سبحانه من بلغها بالموقع المميَّز عنده، عندما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وقال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
كذلك أشارت الأحاديث إلى هذه الأهمية، فقد ورد في الحديث عن رسول الله (#) أن الله عزّ وجلّ قال: «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلّا الصَّومَ، فإنه لي وأنا أجزي به»، وفي الحديث: «الصوم جنّة من النار»، وفي حديث آخر: «نوم الصَّائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف، إنّ للصَّائم عند إفطاره دعوة لا تردّ». وفي الحديث: «إِنَّ للجنَّة بَاباً يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، لا يدْخُل منه إلَّا الصَّائمونَ، فإِذا دَخَل آخرهم أُغلِقَ ذلك الباب». وفي الحديث: «طوبى لمن ظمئ أو جاعَ للّهِ».
لكن يبقى الأمر الَّذي يطرح عادة، لماذا هذا التأكيد على الصّيام والاهتمام الذي حظي به الصائمون؛ هل هو فقط لتركهم الطعام والشراب وبقية المفطرات، أم أنَّ هناك أهدافاً ومقاصد وغايات يريد الله تحقيقها من وراء هذه الفريضة؟
بالطبع، الصيام ليس ما اعتدنا عليه من ترك الطعام والشَّراب فحسب، بل إن هناك أهدافاً عديدة أريد تحقيقها من ورائه، وبهذا نفسِّر الأحاديث التي تقول: «كم من صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع والظمأ»، «ربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ والعناء». وفي الحديث: «مَن لَم تَصُم جَوارِحُهُ عَن مَحارِمي، فَلا حاجَةَ في أن يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ مِن أجلي».
سببُ فرضِ الصّيام
وهناك العديد من الأهداف التي جعلت للصِّيام، ونحن اليوم سنشير إلى واحدة من أهمّ الأهداف التي لأجلها كان الصّيام، وهو ما أشار إليه الإمام الصادق (ع) عندما قال: «إنّما فرض الله عزّ وجلّ الصّيام، ليستوي به الغنيّ والفقير، وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّ وجلَّ أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضعيف، فيرحم الجائع ويُسقى الظمآن».
لقد أشار الحديث بكلِّ وضوح إلى أنَّ الهدف الذي لأجله دعا الله عباده إلى هذه الفريضة، هو إيقاظ إحساس الأغنياء بجوع الفقراء ومعاناتهم، لكون غناهم وما يملكون قد يجعلهم لا يشعرون بمعاناة الناس وما يكابدونه عندما لا يجدون ما يقوتهم وما يسدّ حاجتهم، ويظنون أن الناس مثلهم، وهنا نذكر ما ورد عن ملكة فرنسا ماري أنطوانيت الَّتي سألت عن سبب ثورة الناس عليها، قالوا لها: إن الناس لا يجدون الخبز، فقالت لهم: لماذا لا يأكلون البسكويت؟! ونشير هنا إلى أنه لا يُقصد بالأغنياء من يملكون الثروات والأموال الطائلة، بل من يفيض ماله عن حاجته.
ومن خلال ذلك، نعي أن هناك ترابطاً بين هذه الفريضة ودعوة الإسلام الأغنياء إلى تحمّل مسؤوليَّتهم تجاه الفقراء وذوي الحاجة، والتي جاءت هذه الفريضة لتزرع فيهم الإحساس بمعاناة الفقراء لدفعهم إلى تحمّل المسؤولية تجاههم. وما يعزز هذا الترابط بين الصيام وبين مساعدة الفقراء والمحتاجين، هو ما أشارت إليه الآية التي تلوناها من أنَّ البديل من الصيام لمن لم يستطع أداءه، لعجز أو مرض، وحتى لتأخير قضاء الصيام عن السنة التي فاتت فيها، هو إطعام مسكين عن كلّ يوم: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. ونجد ذلك أيضاً في ما فرضه الله في نهاية شهر رمضان في يوم العيد، حيث دعا الصَّائمين حتى يكملوا صيامهم ويحقّقوا أحد أبرز أهدافه، إلى أن يدفعوا زكاة الفطرة، والتي لا يكتمل الصِّيام إلّا بها.
ولذلك نجد أنَّ رسول الله (#) أفاض في خطبته في شهر رمضان، في الدَّعوة على جعل هذا الشَّهر شهراً يساعد فيه الأغنياء الفقراء وذوي الحاجة، عندما قال: «أيُّها النَّاس، تَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ... أيُّها النَّاس، من فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشَّهر، كان له بذلك عند الله عتق ‏رقبة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه». فقيل: يا رسول الله، ليس كلنا قادراً على ذلك؟ فقال (#): «اِتّقوا النار ولو بشقّ تمرة، اِتقوا الله ولو بشربة من ماء».
ونشهد ذلك في الدعاء الذي يُدعى به في كلّ يوم، وهو لتذكير الصائمين بمسؤوليتهم، والذي يقال فيه: «اَللّـهُمَّ أغْنِ كُلَّ فَقير، اَللّـهُمَّ أشْبِعْ كُلّ جائِع، اَللّـهُمَّ اكْسُ كُلّ عُرْيان، اَللّـهُمَّ اقْضِ دَيْنَ كُلّ مَدين، اَللّـهُمَّ فَرِّجْ عَنْ كُلِّ مَكْرُوب».
المسؤوليَّةُ تجاهَ الفقراء
أيُّها الأحبة: إننا أحوج ما نكون إلى تعزيز الإحساس بالمسؤوليَّة تجاه من يعانون ومن يحتاجون إلى أن نمدّ إليهم يد العون من الفقراء والمساكين وذوي الحاجة في واقعنا، وإلى أن نتحرَّر من الأنانيَّة التي تجعل الإنسان يفكّر في نفسه وتلبية احتياجاته، حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين، وتدعوه إلى الجشع والاحتكار من دون النظر إلى آثاره على المستضعفين، لنواجه بذلك الوضع الاقتصادي والمعيشي الصَّعب الذي نعيشه، حيث يزداد الفقراء فقراً والأغنياء غنى، ما يستوجب تكاملاً وتعاوناً من أجل القيام بهذه المسؤوليّة. ونحن مع حرصنا على استمرار المبادرات الفردية، بل وتشجيعها، لكونها ضرورية، فإنّ الأساس هو تعزيز المبادرات الجماعيّة، عبر إنشاء جمعيات أو لجان، سواء كانت لجان أحياء أو داخل القرى، أو لجان مساجد، للقيام بحلّ هذه المشكلات، وبمدّ يد العون للجمعيات والمؤسّسات التي تحمل هذا العبء، والتي باتت تنوء بحمل هذه المسؤوليّات، والتي من مسؤولية المجتمع كلّه أن يقف معها، وأن يسندها بالدعم والنصح والتسديد والنقد، فلا يكفي انعدام القدرة المادية كعذرٍ أمام الله لعدم القيام بالمسؤوليّات تجاه هؤلاء وخدمتهم، إذ لا بدَّ من حثّ من يملكون القدرة لممارسة واجباتهم.
إنَّ علينا أن نعتبر، ونحن في هذا الشَّهر المبارك، أنَّ إعانة الفقراء وذوي الحاجة، هو مقياس نجاحنا في القيام بمسؤوليَّات هذا الشّهر، ولقبول عملنا فيه. فالله لن يكتفي حتى يتقبّل منا أعمالنا في هذا الشّهر، أن نؤدّي فيه صيامنا وقيامنا وتلاوة القرآن والدعاء وإحياء ليالي القدر، بل سيقول لنا ماذا قدَّمتم لعيالي، وبماذا خدمتموهم؟!
لنجعل هذا الشهر كما أراده الله وعمل له رسوله (#)، شهراً ينعم فيه الفقراء والأيتام والمعوّقون بالحصول على ما يحتاجون إليه، حتى لا يمدّوا أيديهم إلى أحد.
وهنا نقدِّر كلَّ الجهود التي تبذل في هذا الشهر وفي غيره من الشهور.
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}.. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}...