بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 حزيران 2023 12:00ص فريضة الحجّ في أبعادها ومعانيها

حجم الخط
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} صدق الله العظيم.

نداء إبراهيم بالحجّ

عندما أتى النّداء من الله إلى نبيّه إبراهيم، بعدما انتهى من رفع قواعد البيت مع ولده إسماعيل(ع): {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، سأل إبراهيم(ع) ربّه: كيف ذلك وصوتي لا يصل إليهم؟ قال تعالى: عليك النّداء، وعليّ البلاغ.
وتذكر الرّواية أنّ إبراهيم وقف على جبل الصّفا، وقال بأعلى صوته: «أيها النّاس، قد اتّخذ الله لكم بيتاً فحجّوا إليه». وانتشر النّداء في الأرجاء. ومنذ ذلك الوقت، والنّاس يفدون برغبة وشوق وحنين إلى البيت زرافات ووحداناً.
لقد أودع الله في النفوس جاذبيّة إلى هذا البيت. وقد أخبرنا الله سبحانه عن ذلك، عندما سمّى مركز البيت، وهو مكّة، أمّ القرى، كما قال لرسوله: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}، فمكّة بمثابة الأمّ التي ينجذب إليها أولادها وتحتضنهم.
وقال تعالى في آية أخرى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}. فالبيت هو مثابة، أي المكان الذي يرتاح إليه الإنسان ويطمئنّ فيه، ولذا هو دائم التردّد إليه. وهذا فعلاً ما يشعره كلّ راغب بالحجّ، إذ نجد الناس يحجّون إلى بيت الله، رغم معرفتهم بالمشقّات والصّعوبات والأخطار، بل ويمنّون النفس بالحجّ في كلّ عام لو سنحت لهم الفرصة والظّروف. ويكفي للدّلالة على ذلك، جموع المنتظرين لأداء هذه الفريضة.

مكانة البيت وأهميّته

فقد شاء الله سبحانه وتعالى لهذا البيت أن يكون أوّل بيت وضع للناس للعبادة، وإلى ذلك أشار سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً}. ورمزيّته أنه المكان الذي يتوحّد عليه المسلمون، فهو وجهتهم في صلواتهم حيثما كانوا، وعنده يلتقون عندما يفدون إليه من شتّى بقاع الأرض للطّواف والصّلاة والذّكر والدّعاء والاستغفار. وهذا البيت له ميزة، وهي أنه كثير البركات التي تغمر كلّ الذين يفدون إليه؛ الطّائفين والمصلّين والناظرين إليه واللائذين به.
فقد ورد في الحديث: «من قصد هذا البيت حاجّاً أو معتمراً، رجع طاهر الذّنوب كيوم ولدته اُمّه».
وورد في ثواب الصّلاة في هذا البيت، أنها تعادل مئة صلاة.
وهو المكان الّذي يستجاب فيه الدّعاء والاستغفار، حيث يكون الإنسان فيه أقرب إلى ربّه.
وميزة أخرى أضافها الله إلى هذا البيت، وهي أنّه جعله حرماً آمناً، بعد أن استجاب لدعوة النّبيّ إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِناً}، وتجلّى ذلك في حماية الله لهذا البيت وحفظه من كلّ طاغية، وهو ما حصل لأبرهة عندما جاء إلى هذا البيت بجيش جرّار قاصداً هدمه، ليوجّه النَّاس إلى غيره، فأرسل الله على جيشه طيراً أبابيل، رمتهم بحجارة من سجِّيل، فأهلكتهم.

من مظاهر عبادة الحجّ

وما زاد من قيمة هذا البيت، أن جعل الله بعض مواقعه ساحةً لاستدرار الرحمة الإلهيّة؛ حيث تتحطّم الذّنوب. وتميّزت الفريضة فيه أنها جامعة الفرائض، إذ إنَّ فريضة الحجّ تجمع الصَّلاة والصَّوم والدّعاء والذّكر وبذل المال والتّضحية، وقد فرضها الله على كلّ مستطيع، واعتبر تركها كفراً وإخلالاً بإيمانه، وأنَّ من تركها مستطيعاً «مات على غير دين الله»، حسبما جاء عن رسول الله.
ولقد تميَّزت هذه العبادة بسعة معانيها وآفاقها، فهي عبادة تربطك بالتّاريخ، حيث تعيش فيه آفاق الرّسالات السماويّة، فتستحضر منها في ذاكرتك آفاق النبيّ إبراهيم ومنطلقاته وتطلّعاته.
وتستحضر أيضاً في رحاب هذه الأرض الطّاهرة، تاريخ رسول الله في كلّ الأمكنة والمحطّات التي عاشها، والحروب التي خاضها، لتأخذ من ذلك زاداً في الرّوح والقوّة والعزّة، ولتؤكّد عبوديتك للّه وحده، عندما تعلن الولاء له لا لسواه، وتقول: «لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك».
ومن مظاهر العبادة في هذا الموقع، أنها ملتقى المسلمين، ومكان اجتماعهم الأعظم؛ يتعارفون فيه ويتواصلون ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ويتبادلون الرأي حول قضاياهم العامَّة. لكن تبقى الفائدة الأهمّ، والتي يلتقي عليها المسلمون، أن يستثمروا هذا المشهد المهيب، حين ترى المسلمين يطوفون معاً، ويسعون معاً، ويقفون معاً، ويرجمون الشّيطان معاً، حيث تتجلّى في ذلك قوّتهم وعزّتهم ووحدتهم، والّتي أن أحسنوا استثمارها، وعزّزوا بها مواقعهم، وتعاونوا لأجل نشر قيم الخير والعدالة، فإنهم سوف يكونون في مواقع العزّ التي يريدها الله سبحانه وتعالى للمسلمين.

هل ندرك قيمة الحجّ فعلاً؟!

ولعلّ أهمّ وظائف الحجّ، هذا التواصل والترابط بين المسلمين، بحيث يظهرون الصورة التي أرادها الله لهم عندما جعلهم أخوة، وقد أشار إلى ذلك رسول الله، عندما قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضها بعضاً»، «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسَّهر».
وهذه الصّورة هي الّتي أشار إليها أمير المؤمنين، عندما قال في وصيّته: «الله الله في بيت ربّكم، فلا يخلو منكم ما بقيتم، فإنّه إن ترك لم تناظروا»، وعندما قال: «الحجّ تقوية للدّين».
لكنّنا - مع الأسف - لم ندرك معنى هذه الفريضة بعمقها، وإلّا، هل يمكن أن نطوف معاً، ونسعى معاً، ونقف معاً، ونضحّي، ونهزم الشياطين معاً، فيما صورتنا حتى ونحن في الحجّ على غير ذلك؛ تتلاعب بنا الفتن، ويتلاعب بنا الآخرون، وبدلاً من أن نرجم الأعداء، نرجم بعضنا بعضاً؟!
لقد كان حرص رسول الله كثيراً على تعزيز هذه القيم الّتي يحملها الحجّ في نفوس المسلمين، عندما وقف وسط الحجيج قائلاً لهم: «أيّها النّاس، إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في عامكم هذا... لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».
ولهذا، أراد الله لكلّ المسلمين، حجّاجاً وغير حجّاج، أن يتزوَّدوا من هذه الأيام المباركة. ومن هنا، جعل الله إحياء يوم عرفة ويوم العيد عامّاً وشاملاً لكلّ المسلمين، حتى نواكب الحجّ، ونحصل على النتائج المعنويّة الكبيرة التي ترتقي بنا إلى خير الدّنيا والآخرة.