بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 آذار 2024 12:00ص لماذا «اللقاء للحوار الديني الاجتماعي»؟

حجم الخط
«الأمم والمجتمعات والأوطان لا تغنيها الحروب ولا حتى المجاعات ولا الزلازل ولا البراكين. قد يؤثر ذلك عليها سلباً، زماناً وتطوّراً وتقدّماً ومدينة وغير ذلك ولكن الفناء والإبادة لا يكون إلّا إذا تم الجهل وتعطّل العقل وركن كل فريق إلى منطقته ومذهبه وطائفته وحزبه وغيرها من الأطر الضيقة التي هي أشبه بسجن قد لا تعيق صاحية من الحركة عدواً ورواحاً مجيئاً وذهاباً ولكنه يغيّر عقله ويسودّ قلبه وجعاً. والأمم والمجتمعات والأوطان قد يعتورها الضعف والقوة والمد والجزر والاقبال والإدبار، بل حتى التكافل والتأكل والحضور والغيبة. وهذه سنن ترتبط بالأسباب وجوداً وعدماً.. ولكنها سُنَن لا تدوم ولو أنها قد تطول... الكارثة أيها السادة والسيدات هي الجهل والأميّة وتعطيل جهاز الاستقبال كما الإرسال تارةً في إطار التعامل والتعايش مع الآخر. ولا أعني بالأمية هنا عدم معرفة القراءة والكتابة وإنما عدم الفهم للسنن وللآخر وعدم استيعاب حركة الحياة تطوّراً وتقدّماً والتي جعلت من العالم قرية صغيرة يسهل التواصل مع أبنائنا بل مراقبة ومتابعة الأحداث يوماً بيوم وساعة بساعة ولست بصدد النقد والتجريح، ولا المدح والثناء ولو أن كلا الأمرين له وجوده وأثره ولكني بصدد لفت النظر أن سرعة التطور التقني والعلمي إن يصيبنا على ما نحن عليه اليوم قد تخرجنا من المعادلة أو من الزمن ذاته، والكارثة الأخرى، هي فقدان الأمل والرجاء من النهضة والعودة إلى الذات، وإلى إعمال العقل والفكر من أجل مقاومة الركود الفكري والترهل الثقافي وهذا كون آخر من الجهل الذي يمثل الكارثة الأولى.
لاحظوا معي أنني لم اقل كلمة اليأس وإنما ذكرت فقدان الأمل لأنَّ الْيأْسَ ليس صفة تلحق بالعقلاء والحكماء.. وأهل الرأب والنظر، وأعود بعد ذلك إلى الركود الفكري والترهل الذي يصيب الهمم ويفقد البعض حركة العطاء والمتابعة وتحمّل المسؤوليات لأقول وبكل جرأة أدبية بأن ذلك ثمرة طبيعية لكل الذين تلفوا عن مصافحة الآخرين وملاقاتهم في إطار الجناس الفكري والثقافي والوطني والإنساني. إن الذي يجمع بين أبناء الوطن كثير وكبير.. وله مساحة واسعة لا تخضع للعدد في مفرداتها، ولا تحصيها كلمة ولا محاضره ولا تعبّر عنها كلمات إنها الإنسانية ابتداء ووحدة المنشأ والمصير، ثم إنها وحدة الدين في أصوله الإيمانية وقيمه الأخلاقية، إنها تنوّع الثقافات ووحدة الحضارة، إنها المشاعر والعاطفة واللهفة، إنها الحاجة المدنية للآخر التي يقول عنها شيخ علم الاجتماع ابن خلدون، بأن الإنسان مدني بطبعه وأن الحياة لا تكتمل ولا تخلو إلّا مع الآخر، ويرحم الله القائل «أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم لا تضج الدنيا وفيها أنتم».
هذا اللقاء هو ثمرة تبادل آراء وأفكار وهموم إنسانية ووطنية وحوارات فكرية بين رهط من الحكماء وأنعم به من رهط يحمل همّ الوطن والمجتمع والناس لا يرفض الاستسلام للأمر الواقع الأليم فحسب وإنما لنضال الأكثرية الخيرة الطيبة من أبناء وطننا ومجتمعنا والتي يفخر بها لبنان من أكثرية صامته يغلب عندها التأمل عن بُعد إلى أكثرية متحركة معطاءة فاعلة عبر الحوار والتلاقي والتكافل وتحقيق القدر الأكبر من التجانس لصناعة مناخ وطني عام يُشكل أو يُمثل قوة ضاغطة لا يسهل تجاوزها ولا تخطيها، هذه الأكثرية تمثل بحق أصالة اللبنانيين وسمو فكرهم وسعة ثقافتهم ورفع الأميّة من مجتمعاتهم. هذا اللقاء هو نقطة انطلاق جديده تمثل أملاً واعداً مبرمجاً وممنهجاً، خطواته مترابطة يمثل عملاً متكاملاً بكل ما تحميل هذه الكلمة من معنى، يهدف بالدرجة الأولى لتمتين الوحدة الوطنية التي لا يحفظها ولا يثبتها إلّا الجناس الفكري التعددي الذي تجمع التنوع في إطار التلاقي والتصافح لا التصارع ثم الوعي الوطني الذي يرفع الحواجز الوهمية وتارة النفسية بين أبناء الوطن دون تخوّف أو حذر.
هذا اللقاء هو مساحة رحبة وواسعة لتحقيق هذا الحلم الوطني الذي يؤكد العيش الواحد أو المشترك فلا مساحة في الاصطلاح والذي يجعل من اللبنانيين عائلة واحدة اسمها لبنان. هذا اللقاء يحمل رسالة التقارب والتعارف والتألف ومعرفة الآخر للعيش معه وللاستفادة من خبراته دون حمله على رأينا.. أو إحراجه على مواقف لا يراها تصبّ في مصلحة الوطن. هذا اللقاء يمثل مساحة وإطاراً واسعاً تتبلور فيه الثوابت والأفكار والمداميك التي تجمعنا معاشر المسلمين والمسيحيين، فوحدة المنشأ هي الأصل للبشرية كلها ( كلكم لآدم وآدب من تراب) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)، وثاني هذه الثوابت والأفكار والمداميك هي وحدة الدين في الأصول، وليس أدل على ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم «الأنبياء إخوة لعلّات أمهاتهم شتّى ودينهم واحد». وثالث هذه الثوابت والأركان والمداميك هي القيم ومكارم الأخلاق التي تكاد تكون متطابقة أو هي عينها. فالقيم في الرسالات السماوية واحدة وكلها تقوم على المحبة والرحمة والتسامح ونبذ الأحقاد والكراهية والشحناء لأن الحياة لا تحلو ولا يستقيم أمرها إلّا بها.. واعذار الآخرين وحسن الظن بهم سمة الأقوياء الذين يتقون بأنفسهم ولا ينتظرون خطأ الآخرين لتقوى الحجة عليهم.
في الإسلام رحم الله أمرئ سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا اقتضى. وفي إطار التعامل والنظرة إلى الآخرين يقول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. وقول الله تعالى {ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}. وحدهم اليهود وليست الرسالة اليهودية او رسالة موسى عليه السلام، إنما اليهود وحدهم هم الذين كانوا يقولون لبعضهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وكثير من المسلمين وللاسف لم يفهموا الآية ولا حتى السياق وان هذا من كلام اليهود فيما بينهم السبب أنهم عنصريون وأنهم شعب الله المختار. وأن العالم كله إنما خلق لخدمتهم، بل وإن كل المحرّمات عليهم مع الآخرين أما هذا مضمون اللقاء... وهذه أسس الانطلاق... وهذه الأبعاد والغايات والأهداف وهذا دور العقلاء والحكماء وحضارة الأمم لها دستورها الثقافي وقوته في تعدّده وتنوّعه وتماسكه وهكذا تبنى الأوطان والمجتمعات.  فيدنا ممدودة وقلوبنا تسع الآخرين أيا كانوا وعقولنا ثروتنا لا تُعدّ».

< كلمة ألقيت في مؤتمر «اللقاء للحوار الديني الاجتماعي» في طرابلس