بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

15 أيلول 2021 09:59ص بالعربي الأفصح من «الحكيم» إلى «العنيد»

سمير جعجع خلال احياء ذكرى شهداء المقاومة اللبنانية في 5 ايلول 2021 سمير جعجع خلال احياء ذكرى شهداء المقاومة اللبنانية في 5 ايلول 2021
حجم الخط
لم يسجَّل في تاريخ الرئاسات اللبنانية في مرحلة ما قبْل الاستقلال (فترة الانتداب الفرنسي من عام 1926 وحتى عام 1943) أن قيل في حق الذين جلسوا على كرسي القمة من النقد المرير والاستهانة وبعبارات تتجاوز بكثير لياقة التخاطب، سواء من جانب أطياف من الشعب، أو من قامات حزبية ذات تأثير في الحياة السياسية اللبنانية أحدثهم رئيس «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع أو «الحكيم» (اللقب المستحب عنده) الذي طوى إلى غير عودة إمكانية أي مصالحة مع الرئيس ميشال عون نادماً على ذلك التحالف الذي سبق أن عقده معه ومن دون أي تفسير للدواعي يقال في حينه لـ«الجمع القواتي» عن مكاسب هذا التحالف الذي لم يصمد. ربما لأن ما من المفروض قوله لا يقال على الملأ، مثل أن الرئيس ميشال عون تعهد أن يتولى الرئاسة من بعده الحليف الجديد سمير جعجع، ثم محا بعد الإعلان الابتهاجي المشترَك من الطرفين بإبلاغ الملأ اللبناني والسوري والخارجي أن خليفته هو زوج ابنته... وكفى «القوات اللبنانية» مواصلة الاعتراض.

ما يعنينا هنا هو هذه القدرة من جانب الرئيس ميشال عون على الاستخفاف بهذه العبارات المسيئة التي تقال في حقه من خلال أفراد موجوعين وأحياناً جائعين، ومن متزعمي أحزاب سياسية وهيئات اقتصادية ومجتمعية مرموقة، ومن نساء تعكس صرخات الجميع إلى جانب الدعوات على الرئيس وسائر الملتفين حوله بأسوأ الحال حجم الانحدار الحاصل اجتماعياً وسياسياً ومعيشياً ومالياً في الوطن. فهو ليس ديمقراطياً لكي يقال إن هذه طباعه لا يضيق بما يقال فيه وعنه. ربما الاستخفاف بالكلام المهين إقرار ضمني بأن القائلين على حق، وأنه ما دام لم يصحح من اليوم الأول فإن المعالجة تصبح على درجة من الاستحالة، وفي هذه الحال يترك الأمور تتراكم إلى حين انقضاء ما بقي من السنوات الست العجاف ويغادر رئيساً بدل المغادرة الاضطرارية على نحو ما جرى للرئيس سليمان فرنجية الذي اختصروا له رئاسته؛ الأمر الذي جعل سليمان الحفيد يقرر الثأر لما أصاب الجد، وذلك بأن يكون هو الرئيس، وكاد ينال ذلك لولا أن سعد الحريري الأكثر شأناً بين الزعامات السياسية السُنية ارتكب خياراً شبيهاً بعض الشيء بما سبق واختاره سمير جعجع عند تحالف «قواته» مع «تيار» الرئيس عون، فقدَّم إلى «ميشال عون رئيس التيار الوطني الحر» الهدية الحلم، وهي أن يصبح الرئيس الحادي عشر للجمهورية غير المكتملة سيادة القرار. وخلافاً لما كان مبرر تحالف جعجع أنه مقابل التحالف يدعمه عون ليكون الرئيس الثاني عشر، فإن «عون الرئيس» التزم وعد «عون الجنرال» وترأس سعد الحريري الحكومة من دون أن يخطر في باله أن «عون الرئيس» سيكويه إساءة في مرحلة لاحقة. ولقد حدث ذلك بالفعل وبالقول.

أحدث الاستهانات بالرئيس ميشال عون جاءت في الخُطبة العصماء الطويلة للدكتور سمير جعجع، ألقاها واقفاً ومن دون أن تكون مكتوبة، وقالها باللغة الفصحى من دون خطأ في الضم والكسر والجمع يوم الأحد 5 سبتمبر (أيلول) 2021. وهذا التخاطب درجت عليه أيضاً زوجته ستريدا جعجع. كأنما هذا الثنائي المتميز يؤكد فصحى القرآن وأئمة الصرف والنحو والبلاغة وليس على ما أراده الراحل سعيد عقل في شأن اعتماد العامية لغة محكية ومكتوبة. ويحتار سامع خطبة الدكتور جعجع مثل حالنا أي عبارة مسيئة أكثر من أُخرى من بين عبارات كثيرة وردت في خطبته. هل هي عبارة «إننا نرفض الرئيس الخانع والخاضع والمساوم على الأساسيات والثوابت»، وهل هي عبارة «نرفض الرئيس الضعيف» و«الرئيس الذي يفتعل الأزمات ويسيِّب الدولة ويُفقر اللبنانيين»، وعبارة «رئيس قوي بالشكل والكلام ضعيف وضعيف جداً بالفعل».

 
مثل هذه العبارات لو قالها جعجع بصفة كونه ركناً يمثل سائر الطيف المسيحي المعارض للطيف العوني (واقع الحال ليس كذلك)، لكان جائزاً القول إنه الموقف الموحد المسيحي. لكن جعجع في الوقت نفسه محصن بموقف مرجعيات أكثرية الأطياف المسيحية المارونية والأرثوذكسية من البطريرك الراعي إلى المطران إلياس عودة الذي صودف أن قال في اليوم نفسه عن الرئيس عون وعهده عموماً في قداس «إن عدم احترام الدستور والتغاضي عن الفساد وتعطيل المؤسسات أدت إلى انهيار الدولة»، و«إن شبق السُلطة يدمر صاحبه ويدمر البلد». وأقوال هذه المرجعية الأرثوذكسية الكثيرة الرقي تنسجم وعشرات العبارات التي سمعها اللبنانيون من البطريرك الراعي في قداديس ومناسبات كثيرة منذ أن أطلق الدعوة الصالحة والحل الذي لا أكرم منه للجميع... دعوة إعلان لبنان دولة محايدة.

كيف سيمضي الرئيس ميشال عون الأشهر المتبقية من رئاسته في حال لم تحدث مفاجأة اختصار الولاية، في حين النعوت والإساءات تنهال على شخصِه وعهده ومن مختلف الأطياف اللبنانية. وهنا نقول، إنه لو كان الدكتور جعجع جزءاً من تحالف في العلن مع مَن هم من شاكلته في التخاطب وحذاقة الاستنهاض، من سائر الطوائف اللبنانية لما كانت خطبته التي سمعناها كما سائر أطياف كثيرة من اللبنانيين، ولكان لما قاله فِعْل كالذي أودى ببعض رئاسة أول الرؤساء الاستقلاليين بشارة الخوري وبثانيهم كميل شمعون وبثالثهم في حقبة الوصاية السورية سليمان فرنجية. ولكن الدكتور جعجع كان يخاطب الرأي العام المسيحي الذي لا ندري هل سيبقى على تشققه الذي وضع به السيادة في مهب الجزر الطويل.

ما بعد مخاطبة الحكيم بالعربي الفصيح، بل وبالأفصح كمفردات وكمضمون ليس كما قبل المخاطبة تلك.

لكن تبقى الإجابة عن لغز حارت الشطارة اللبنانية والعربية والدولية في تفسير كنهه وهو: ما هي هذه المتعة لرئيس تنهال عليه الإساءات والمسبات على مدار الساعة علناً أحياناً وفي المجالس العائلية معظم الأحيان وبالذات عند الإحساس بالاختناق من واقع الحال؟

ولماذا لا يكون من الذين سبقوه من أيام الانتداب وسنوات الاستقلال، حامدين شاكرين في معظمهم قانعين منصرفين بما يرضي رب العالمين ويريح الضمير ويحترم النفس؟... أما كيف حكم هؤلاء وكيف انصرفوا ثم رحلوا ولا من يرميهم باستهانة؟... فللحديث بقية.

المصدر: الشرق الاوسط