بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

19 نيسان 2020 08:41ص قيادة العالم والفراغ الجيوسياسي

حجم الخط

من بين النتائج الأولية لوباء فيروس كورونا المستجد، تعرية إشكالية قيادة العالم، بعد أن بات هناك فراغ جيوسياسي عالمي، يلف الكرة الأرضية.

كشفت تبعات كورونا في شهرها الثالث أن المؤسسات الأممية الكبرى، والأقطاب التقليدية، جميعها باتت عاجزة عن مواجهة جائحة لا تتوقف عند الأعراق والأجناس، ولا تميّز بين أتباع الملل والنحل.

ومع ذلك، ظلّ العالم منقسما ما بين اتهامات متطايرة، وحقائق ضائعة، وأمصال غائبة في مواجهة الفيروس المتوحش.

وأظهرت الأزمة أن الأمم المتحدة، والتي كان من المقدّر لها أن تحتفل في سبتمبر المقبل بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها، باتت عاجزة عجزا مؤلما عن ملاحقة الأحداث، والتصدّي والتحدّي للعثرات الإنسانية المصيرية.

لكن ما الذي يمكن للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن يصنع في ظل مجلس أمن منقسم على ذاته، وسجال متصل غير منفصل بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ضمن معركة رأي عام دولي، واختلاف الرؤى حول تهديد الفيروس للأمن الدولي؟.

فشل مجلس الأمن الدولي في عقد اجتماع واحد حول كورونا يضمّ الأعضاء دائمي العضوية، وحتى المبادرة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لعقد اجتماع افتراضي للمطالبة بوقف المعارك الدائرة حول العالم، في زمن كورونا، لم تفلح مما يبين حقيقة أن الأمين العام يتحمل مسؤولية كبيرة مع سلطة ضئيلة.

ولم تكن أزمة كورونا في واقع الأمر هي المشهد الأول في الفراغ الجيوسياسي للأمم المتحدة، فقد أكدت الأزمة السورية وسنوات من النقاشات العقيمة، أن المبنى الزجاجي على ضفاف الهدسون أضحى مشلولا، وأن هناك حاجة لمن يملأ هذا الفراغ، ومواكبة عالم ما بعد كورونا.

والشاهد أنه بترتيب المسؤوليات يجد المحلل للشأن الدولي نفسه بلا شك أمام الولايات المتحدة الأميركية، والتساؤل: هل هي بعد قادرة أو راغبة في الظهور بمظهر القيادة الدولية؟.

يمكن القطع وحتى الساعة بأن العالم من غير أميركا يختل، ومع أميركا ورؤيتها للقرن الأميركي مُعتَلّ، وما بينهما ظهرت كورونا.

وفي زمن الرئيس دونالد ترامب، الرجل الذي لا يؤمن بأن واشنطن يجب أن تكون شرطيَّ العالم أو دَرَكه، أي الانسحاب من أعباء أية مسؤولية دولية.

الفراغ الجيوسياسي الأميركي لم يكن على الصعيد الخارجي فحسب، بل طال الداخل، مما يجعل الهول مرعبا، والعهدة هنا على الراوي ريتشارد غوردون، ممثل المنظمة الدولية لدى مجموعة الأزمات الدولية، والذي أقرّ بأن: "الأميركيين ظهروا في أثناء المحنة تائهين، مركّزين جهودهم على تحميل بكين مسؤولية انتشار كوفيد -19، عوض تطوير استجابة دولية للمشكلة".

أدرك الأميركيون أنفسهم أن خطبا جللا أصاب بنيتهم التكتونية، فعلى مرّ التاريخ ، كانت واشنطن سباقة في تقديم يد العون للعالم، ولعل النازية لم يكن لها أن تتوارى، وأن يضمحل خطرها من غير تدخّل الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة من زمن الحرب العالمية الثانية.

ومن عبث الأقدار أن واشنطن وقفت وطوال شهر كامل من غير فعل إيجابي تقدمي يرد عنها هجمة كورونا الضارية، رغم تسلُّحها ببعض من أفضل العلماء تدريبا، وأمهر أخصائيّي الأمراض المعدية، ما كان يوفر لها فرصة لاحتواء انتشار الفيروس.

ولا يتوقف الفراغ الجيوسياسي عند حدود الولايات المتحدة، بل يمتد حكما إلى الصين، والتي فيما يظن البعض أنها ربما كسبت بضعة مليارات من الدولارات عبر مبيعات مستلزمات وأدوات طبية، فإن خسارة كبرى ولا شك قد لحقت بسمعتها الدولية، إذ يوما تلو الآخر تظهر للعلن حقائق عن تسببها في انتشار الوباء من خلال أدوات الإنكار الشمولية، تلك التي تختصم من أي مستقبل لها في الشراكة مع العالم النيوليبرالي الأوروبي أو الأميركي، وتلقي بظلال من الشك على مستقبل علاقاتها مع بقية بقاع وأصقاع العالم، لاسيما في منطقتين جغرافيتين هامتين لهما مستقبل كبير في التوازنات الأممية في قابل الأيام: أفريقيا ومنطقة أمريكا اللاتينية.

أظهرت أزمة كورونا أن الصين بمفردها عاجزة عن قيادة العالم، وأن الحلم الآسيوي بسيادة قريبة، وتحول قلب العالم من أوروبا كما كان يؤمن عالم الجغرافيا والاستراتيجي الأشهر هالفي ماكندر، إلى آسيا، أمرٌ يحتاج إلى عقود وليس عقد أو اثنين، لا سيما وأنهم فشلوا في تقديم رؤية مقنعة حول كيفية التعامل مع الأزمة، وبدوا وكأنهم مهمومون بالدفاع عن صورتهم في أعين العالم ومخيلات الشعوب، بأكثر من اهتمامهم بالبحث في أصل ومنشأ الفيروس اللعين، وكيفية تسربه إلى العالم الخارجي، الأمر الذي لن يغفره أحد للصينيين في الحال أو الاستقبال.

وماذا عن روسيا وموضعها وموقعها في التحولات الجيوسياسية التي أفرزتها كورونا؟

لطالما اعتبر الروس، والرئيس فلاديمير بوتن بنوع خاص، أن أسوأ ما حدث في القرن العشرين، كان التآمر على الاتحاد السوفيتي، وتفكيكيه وتفخيخه، فهل هذه فرصة لثأر التاريخ؟

الروس يعتبرون اليوم أن كورونا المستجد، أحال الهيمنة الأميركية في العالم إلى شيء من الماضي، كما يذهب إلى ذلك السيناتور الروسي أليكسي بوشكوف، والذي يؤمن بأن هناك مثلثا جديدا سيلعب دور المقدمة التاريخية لعالم جديد، عالم لن ترضى عنه النخبة الأميركية، لا سيما اليمينية بنوع خاص، عالم يمتد من واشنطن مرورا ببكين ووصولا إلى موسكو.

ولكن هل نجحت روسيا في استغلال اللحظة الآنية لتغيير وتعديل مقدرات العالم؟

الثابت أنه وحتى قبل كورونا، كان لدى الروس مشروع طوباوي أقرب الى اليوتوبيا، يحاول تجنّب الإغراق في الملذات الاستهلاكية كما النسق الغربي، مشروع قِيميّ لبثّ الروح الوطنية وتعظيم قيمة التقاليد الروسية، ما تجلّى في سعي بوتن لتحويل روسيا إلى مركز للقيم الأرثوذكسية السياسية، ومن غير جمود أو سيكولائيّة اجتراريّة.

لم تعد روسيا شريكة في رسم خطوط التماس الأممية، أو حدود التحالف والصدع الكوني، بل أضحت سبّاقة في صناعة عالم جديد.

والناظر إلى أساطيلها الجوية التي سارعت إلى دول أوروبا لمساعدتها في مواجهة كورونا يؤكد على أن أممية روسية جديدة قادمة على الطريق.

لن يقف العالم على قارعة الطريق الدولي مكتوف الأيدي في انتظار عودة الدور القيادي الأميركي العالمي لمواجهة التحديات القائمة والقادمة، فهناك أطراف عدة سوف تتقدم لملء هذا الفراغ بمجرد أن تحط الجائحة أوزارها عن كاهل العالم.

هل غادَرَنا الرجال العظماء؟ وهل تكون الأُفُقيّة بصدد التغلّب على العموديّة؟

يحتاج التساؤل الأخير إلى قراءة قائمة بذاتها، غير أنه وفي كل الأحوال يبقى ما قاله الفيلسوف الألماني الأشهر جورج هيغل، قائما أمام أعين العالم ... الاستثنائيون هم من يغير التاريخ.