بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 كانون الثاني 2024 12:00ص إنعاش القطاع العام يتطلّب مقاربات مالية تنصف الموظَّفين وتعدُل بينهم

حجم الخط
ما إن شارف لبنان على منحدر الإنهيار، على أثر تفجُّر أزماته الاقتصاديَّة والماليَّة والنَّقديَّة، حتى أخذت تبعاته السَّلبيَّة تلقي بثقلها على عموم الشَّعب اللبناني وفي طليعتهم العاملين في القطاع العام الذين تلاشت القدرة الشرائيَّةُ لرواتبهم إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، ومذ ذاك والموظفون يدفعون أثماناً باهظة لتبعات السياسات الخاطئة التي اعتُمِدت طِوالَ عقدين من الزَّمن، وكأن قدرهم يقضي بتحميلهم وزرَ الإنهيار، في حين أن القطاع الخاص نجح في دولرةِ تَعاملاته.
تجاهلَ المعنيون من صنّاع القرار معاناة الموظَّفين، ولم يصغوا إلى مناشداتهم، ورفضوا الاستجابة لمطالبهم المُحقَّة والملحَّة، وأمعنوا في ممارساتِهم الجائرة التي أدَّت إلى إفقار الموظَّفين وعَجزِهم عن تأمين الحد الأدنى من الاحتياجاتِ المعيشيَّة والطبيَّة والتربوية لأفراد أسرهم. ووصل بهم الأمر لعدم قدرتهم على تأمين بدلات انتقالهم من مساكنهم إلى مراكز عملهم، فامتنع كُثُرٌ منهم عن الالتحاق بمراكز عملهم، الأمر الذي أدّى إلى حالة من الشلل في القطاع العام. تسبَّبَ في تكدُّسِ المعاملات غير المنجزة لدى الموظَّفين الذين اختاروا ما بين الامتناع الكلي عن الحضور أو الحضور الجزئي يوم أو يومين في الأسبوع. الأمر الذي ارتدَّ سلباً على القطاع الخاص كما على عموم أفراد المُجتمع.
بدا متَّخذو القرار في الدَّولةِ مربكين عاجزين عن تبنّي حلولٍ عمليَّةٍ كفيلةٍ بإحياء النَّشاطِ في القطاع العام، ويعزى ذلك لأسباب عدَّة منها: هبوط مقدار الواردات السنويَّة للدولة والذي يعزى لانهيار قيمة العملة الوطنيَّة وللشلل الذي أصاب الدَّوائر الحكومية التي تعنى بجباية الضرائب واستيفاء الرسوم المُستحقَّة، كما لعدم الانتظام في الحياة السياسيَّة.
إن أشدَّ المخاطر على القطاع العام تمثَّلت في المُقارباتِ المُرتجلةِ وغير المدروسة التي اعتُمِدت لاسترضاء موظفي بعض الأسلاك الوظيفيَّة ودفعهم إلى مزاولة مهامهم ولو بالحدود الدنيا كالعاملين في مجال التعليم والدَّوائر الماليَّة والسلك القضائي ويضاف إليهم العاملون في بعض المرافق الحسّاسة كمصرف لبنان والمطار وشركات الاتصالات وغيرهم ممن استغلّوا الحاجةَ الملحَّةِ إليهم لتَحصيل مطالبهم؛ وحدها الأسلاك العسكريَّة والأمنيَّة بقيت محافظة على أدائها رغم المقاربات التَّقشفية المجحفة التي اعتمدت تجاهها، والإمعان في الإفتئات على حقوقها. وأخطر ما في تلك المقاربات المعتمدة لإرضاء خواطر بعضِ القطاعات الوظيفيَّة أنها كانت غير مدروسة وتفتقد إلى وحدة المعايير وتُخالف مبدأي العدالة والإنصاف وإهمال الموظَّفين المتقاعدين، واعتمادُ تسميات غير مألوفة، كمضاعفة الراتب، أو إضافة بدل مقطوع أو مساعدة اجتماعية، أو بدل انتقال أو بدل إنتاجيَّة... كل ذلك تسبَّبَ في تفاوتٍ كبير في مداخيل العاملين في مختلف الأسلاك الوظيفيَّة، وأضاف فَجواتٍ عدَّة في عمليَّة تحديد الرَّواتبِ، وعمَّق ما هو موجودٌ منها وخاصَّة بين الموظفين العاملين والمتقاعدين منهم.
لقد غاب عن بال أصحاب القرار في الدَّولة أن الراتب بالنِّسبة للموظَّف هو مصدر دخله الوحيد عدا عن كونه حقٌّ يَستحق بمُجرَّد أداء الموظَّف لمهامه، كما غاب عنهم أن الإدارة الجيِّدة للرواتب تُساهم في رفع كفاءَة الموظَّفين وتعزِّزُ قدراتهم الانتاجيَّة وتدفعهم إلى تطوير أدائهم ورفع مستواهم التَّعليمي والفني بما يلبّي متطلبات الوظيفة التي يشغلونها، هذا بالإضافة إلى ضمان استقطاب القطاع العام لأصحاب الكفاءة.
من هنا وجب على المسؤولين الحكوميين إيلاء إدارة الموارد البشريَّة الإهتمام اللازم وتمكينها من بلورة سياسة متجردة وشفَّافة لتحديد الرواتب والأجور في القطاع العام، وتراعي التناسب ما بين الموازنات السَّنويَّة المرصودة للرواتب، وتلبية احتياجات الموظَّفين وتحسين أوضاعهم على نحو متوازن، وتأخذُ بعين الاعتبار المتطلبات الحياتيَّة للموظَّف باعتباره كائن إجتماعي، كما طبيعة المهام المناطة بكل وظيفة يشغلها، وما تتطلبه من كفاءة علميةَّ ومهارات فنيَّة وخبرات عمليَّة وقُدرات فكريَّة وجسديَّة وقدرة على تحمُّل المسؤوليَّة والضغوطات النَّفسيَّة، بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من مخاطر صِحيَّة وأمنيَّة، وهذا ما يدفعنا للتوضيح أن العدالة والإنصاف لا يعنيان المساواة في الراتب لجميع الموظَّفين، بل التناسُب ما بين القدرات وطبيعة الخدمات الوظيفيَّة المطلوب تأديتها.
ونخلُصُ مما أشرنا إليه إلى أن عمليَّة تحديد الرواتب ينبغي أن تتم وفق عمليَّةٍ حِسابيَّة يُخضَعُ لها جميع العاملين في القطاع العام دون استثناء، ويراعى فيها وحدة المعايير، كما مبدأ المُساواة ما بين الموظَّفين الذين هم في ذات الرتبة، هذه العمليَّة الحسابيَّة تقوم على مُحدِّدات ترتبطُ بعوامل عدة بعضها موضوعي وبعضها شخصي. ومن أهمها:
أ- الكفاية الماديَّة للموظَّف وأفراد أسرته: وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى الدَّخل الفردي عامَّة، والذي يحدَّدُ وفقاً لمُستويي التَّضخُّم والغلاء المعيشي، على نحو يضمن لأي موظَّف أن يعيش وأفراد أسرته حياةً كريمة لائقة، وهذا ما يُترجمُ عمليًّا في تحديد حد أدنى للأجور والرواتب متناسب مع تلك الاحتياجات.
ب- المُؤهل العلمي الذي تتطلَّبه الوظيفة: وهذا يبنى على أساس المُستوى العلمي الذي تتطلَّب الوظيفة توفره في شاغلها أو مستحقِّها، وهذا ما يُترجمُ عمليًّا في تحديد الراتب الأساسي والذي ينبغي ألَّا يقل عن الحد الأدنى للرواتب والأجور بغض النَّظر عن الوظيفة أو المهنة التي يشغلها الموظَّف أو يمارسها.
ج- القدرات الفنيَّة: وهي مزيَّة تضاف إلى المُستوى العلمي، وتبنى على أساس التَّمايُز عن سائر الموظَّفين الذين هم بذات المُستوى العلمي، وينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تحديد معيارها نُدرة الإختِصاص وقلَّة المُتخصصين فيه، وهذا يترجم عمليًّا باعتماد معامل (Coefission) لا يتجاوز الـ 25% من أساس الراتب.
د- المهارات العمليَّة المطلوب توفرها في شاغل الوظيفة: وهي مزيَّة يكتسبها الموظَّف مع الوقت بحكم مزاولة اختصاص ما أو عمل معين، وتترجم عمليًّا باعتماد معامل لا يتجاوز الـ 15% من أساس الراتب.
هـ- طبيعة الجهد الذي تتطلبه الأعمال الوظيفيَّة: ويتمثَّل في ما تتطلَّبه الوظيفة من عناء جسدي أو فكري، وهذا يتطلَّب أن يكون الموظَّف قادراً جسديًّا أو مؤهلاً فكريَّا لبذل الجهد المطلوب، ومن الطبيعي أن تختلف طبيعة ومقدار الجهد ما بين وظيفةٍ وأخرى، وهذا يترجم عمليًّا باعتماد معامل لا يتجاوز الـ 15% من أساس الراتب.
و- دوام العمل: ويقصد بذلك عدد ساعات العمل في الأسبوع، كون الخدمة نهاريَّة أو ليلية، استغراق دوام العمل لأيام العُطل الرسميَّة والأعياد، ويترجم عمليًّا بمعامل لا تتجاوز نسبته عن 10% من أساس الراتب.
ز- المضار والمخاطر الصُّحيَّة: وهي كناية عن المخاطر الصحيَّة التي يتعرَّض لها الموظَّف في معرض ممارسة مهامه الوظيفيَّة، كتعرُّضه لمواد مشعَّة، أو تنشُّقه لمواد سامة، أو لروائح كريهة... الخ، أو كونه عرضة للإصابة بحوادث تحدّ من قدراته الجسديَّة أو الذهنيَّة، كأن يكون عرضة للسقوط من شاهق أو عرضة للحرائق وغير ذلك؛ وتترجم عمليًّا بمعامل لا تتجاوز نسبته الـ 15% من أساس الراتب.
ح- مخاطر العمل: وهي كناية عن المخاطر الأمنيَّة والمهنيَّة التي تواجه الموظَّف خلال فترة خِدمته وقد تتغيّر نسبتها وفقاً للأوضاع السَّائدة في المحيط الذي يعمل فيه، كأن يكون عسكري أو رجل أمن أو رجل إطفاء أو مسعفين يعملون في أماكن خطرة وغيرها من المهام التي يكون العاملون فيها عرضة لمخاطر غير مألوفة في وظائف أخرى؛ وتترجم عمليًّا بمعامل لا تتجاوز نسبته الـ 15% من أساس الراتب.
ط- التَّدرج الوظيفي: وهو كناية عن التمايز بين الخبرات العملية التي يتحلّى بها الموظفون بنتيجة مزاولة المهام الوظيفيَّة، ويبنى على المهارات والخبرات المكتسبة والمتراكمة مع سنوات الخدمة، كما مع تبدّل المركز الوظيفي والتَّدرج في الرتبة والدرجة؛ ويترجم عمليًّا بمعامل لا تتجاوز نسبته الـ 5% من أساس الراتب.
ي- بدل نقل شهري: وهو كناية عن بدل يتقاضاه الموظَّف لتغطية الأعباء الماديَّة التي يتكبَّدها جراء الانتقال من مكان سكنه إلى مركز عمله، وعادة ما يرتبط بالأعباء المعيشيَّة على مستوى كل بلد، وما يتوفر لديها من وسائل نقل عامَّة وكلفة عمليَّات التَّنقل اليومي، ويفضل أن تكون نسبة مئويَّة من أساس الراتب على ألَّا تتجاوز الـ 5% من أساس الراتب.
ك- الوضع العائلي: وهو كناية عن مساعدة اجتماعيَّة (تخرج عن إطار المؤهلات الوظيفيَّة) تهدف إلى التخفيف عن الأعباء التي يتكبَّدها الموظَّف المتأهل ومن لديه أولاد من مصاريف إضافيَّة عما لو كان أعزباً، وهذا يتوقَّف على الحالة الإجتماعيَّة للموظَّف، ويبنى على التفاوت في المتطلبات الحياتيَّة للموظَّف المتأهل والأعزب، كما بين الموظَّف المتأهل الذي لديه أولاد على عاتقه ومن ليس لديه أولاد، ويترجم بمعامل نسبته لا تتجاوز 2% من أساس الراتب بالنسبة للمتأهل، وبمعامل لا تتجاوز نسبته 1 % من أساس الراتب عن كل ولد.
ل- بدل سكن: وهو كناية عن مساعدة اجتماعيَّة (تخرج عن إطار المؤهلات الوظيفيَّة) وتهدف إلى التَّخفيف عن الأعباء الماليَّة التي يتكبَّدها الموظَّف لتوفير مسكن يليق بمركزه الوظيفي والاجتماعي، ويفضل أن تحتسب قيمته كنسبة مئويَّة من أساس الراتب للموظَّف، على ألَّا تتجاوز نسبة 25 % من أساس الراتب.
بالإضافة إلى العلاوات التي أشرنا إليها، ينبغي أن تؤخذ بعين الإعتبار المُستلزمات الماليَّة التي تستوجبها المُستجدَّات الصُّحيَّة للموظَّف وأفراد أسرته كما للمصاريف التي يتكبَّدها على تعليم أبنائه والتي من شأنها أن تثقل كاهله ماديًّا، وحرصاً على الاستقرار النَّفسي والمالي للموظَّف من الأهميَّة أن تقدَّم له مساعدات مرضيَّة تغطي كامل مصاريفه الطبيَّة والاستشفائيَّة أو نسبة كبيرة منها، كما جزء هام من النفقات التي يتكبَّدها الموظَّف على تعليم أولاده، إن تيسَّر ذلك في الموازنة السَّنويَّة للدولة، وعادة ما تحتسب كنسبة من الأقساط المدرسيَّة التي يتكبَّدها الموظف عن كل ولد من أولاده وليس من أساس راتبه، وذلك حرصاً على مبدأ المساواة في الحق في التعلُّم أمام الجميع.
وتقتضي الإشارة إلى أن مبدأ العدالة والإنصاف كما الحرص على تماسك النسيج الإجتماعي يمليان عدم وجود تفاوت كبير ما بين الرواتب المُخصَّصة للوظائف الدُّنيا في السُّلم الوظيفي والرواتب المخصَّصة للوظائف العليا، بحيث لا يتجاوز أساس الراتب لأعلى وظيفة في السُّلم الإداري ثلاثة أضعاف أساس الراتب المخصص لأدنى وظيفة فيه؛ كما عدم جواز تجاوز ما يتقاضاه الموظَّف من علاوات وحوافز ومخصَّات وبدلات ضعف أساس الراتب المخصص للوظيفة التي يشغلها. كما أن المبدأين المنوه عنهما يُمليان الحرص على المساواة في الرواتب والتَّعويضات المتممة له بين الموظَّفين المتساوين في الرتبة الوظيفية والدرجة، وأي تفاوت في ذلك يكون غير مبرَّر.
ومما لا شك فيه أن إعادة النَّظر في الرواتب مربوطة بالقدرة الماليَّة للدولة والتي تتوقف على معدَّلات النمو أو الضمور الاقتصادي ووضع المُوازنات العامَّة (فائض أو عجز)، وبالتالي كفاية مواردها على تلبية الاحتياجات العامَّة ومن ضمنها الرواتب والأجور، وعلى نحو يراعي نسب التَّضخم وغلاء المعيشة، وقد يقتضى الأمر ترشيد الإنفاق والتَّقشف في الإنفاق الحكومي بما يراعي الأولويَّات الوطنيَّة، ومعالجة الخلل البنيوي في هيكليَّات القطاع العام، وإنهاء خدمات المُستعان بهم خارج الأصول المعمول بها في مجلس الخدمة المدنيَّة.
ونخلص من كل ذلك للتأكيد على أن المقاربات المجتزأة والمرتجلة لا يمكن لها أن تحقق العدالة والإنصاف بين موظَّفي القطاع العام، وبالتالي ستؤدي إلى مزيد من التَّفاوت بين مداخيل الموظَّفين والتَّسبب بفجوات غير مُبرَّرة، لذا نرى وجوب تأليف لجنة مشتركة بين مختلف الجهات المعنيَّة تكون برئاسة رئيس مجلس الخدمة المدنيَّة، وممثلين عن كافَّة الأسلاك الوظيفيَّة (الدبلوماسي، القضائي، الهيئات الرقابية، المجالس الوطنيَّة، الأجهزة العسكريَّة والأمنيَّة) تكلف بدراسة النُّصوص ذات العلاقة (قوانين، مراسيم، قرارات)، وتشخيص مواضع الخلل في لقطاع العام، وتحديد أسبابها ومن ثم بلورة سياسة رواتب شاملة متكاملة ومتناغمة مع الأوضاع الاقتصاديَّة والماليَّة والنقديَّة والمعيشيَّة في الدَّولة، وبما يوفَّر الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة للموظَّفين بمن فيهم المتقاعدين منهم، تبنى على اعتماد معايير موحَّدة تعتمد لاحتساب أساس الراتب لكل فئة من الموظَّفين وتطبَّق على عموم الموظَّفين بغض النَّظر عن السلك الوظيفي الذي ينتمون إليه، وهذا يتطلب اعتمادَ سلسلة رواتب وأجور مبنية على أسس حديثة سبق وأشرنا إليها، على أن تقرّ بقانون، أما لجهة المقاربة الملحَّة المطلوبة الآن نتيجة تردّي الأوضاع المعيشيَّة للموظَّفين، ينبغي اعتماد معيار واحد يكون بمثابة معامل موحَّد يضرب فيه أساس الراتب لكل وظيفة من الوظائف العامَّة.
كما نُعوِّلُ أهميَّة على تشكيل لجنة مشتركة أخرى برئاسة رئيس مجلس الخدمة المدنيَّة أيضاً تضم ممثلين عن مختلف الإدارات والمؤسسات العامة والهيئات والمجالس والأجهزة، تعنى بإعادة النَّظر في هيكليَّة جميع وحدات وأقسام القطاع العام على نحو يحقق الوفر في الموظَّفين واعتماد المكننة في مختلف إدارات الدَّولة حيث يكون ذلك متاحاً، مع ضمان توفير هامش كافٍ من المُرونة والفعاليَّة.

* عميد متقاعد