بيروت - لبنان

اخر الأخبار

تكنولوجيا

26 حزيران 2023 11:25م آلات صناعة الشرائح الإلكترونية: نموذج الإعجاز التقني

حجم الخط

تُعرف أشباه الموصلات بأنها مجموعة من المواد الصلبة البلورية، التي تتمتع بقدرة متوسطة على توصيل الكهرباء، حيث لا توصل الكهرباء بفعالية كالمواد الموصلة، ولكنها ليست أيضًا من المواد العازلة. تتميز أشباه الموصلات بكفاءتها في مجال الطاقة وتوفرها بأسعار منخفضة. وبناءً على ذلك، تستخدم على نطاق واسع في صناعة الأجهزة الإلكترونية، بما في ذلك الديودات والترانزستورات والدوائر المتكاملة. تشكل أشباه الموصلات العامود الفقري للشرائح الإلكترونية ويعتبر السيليكون والجرمانيوم من أهم المواد الشائعة المستخدمة في صنع الدارات على البلاستيك في الشرائح الإلكترونية. تمتاز الشرائح الإلكترونية بالقدرة على تنفيذ العمليات الإلكترونية والتحكم في تدفق التيار الكهربائي. في البداية، كانت الشرائح الإلكترونية ضخمة الحجم ومحدودة في قدرتها، ولكن مع مرور الوقت، تم تطوير تقنيات جديدة لصنع شرائح إلكترونية أصغر حجمًا وأكثر قوة وكفاءة حيث باتت الركن الاساسي في الكثير من الأجهزة التي نستخدمها في حياتنا اليومية. على سبيل المثال، الكمبيوتر والهواتف الذكية الذين يحتويا على شرائح إلكترونية تتحكم في المعالج وذاكرة الوصول العشوائي ووحدة المعالجة الرسومية والشاشة والاتصال اللاسلكي. ولكن ما هي الآلات المستخدمة في صناعة الشرائح الإلكترونية، وكيف يتم إنتاجها؟ ومن هي أبرز الشركات المسيطرة على هذا المجال؟

تعتبر شركة ASML الهولندية من أهم الشركات الرائدة في عالم التكنولوجيا وذلك لدورها الحاسم في تصميم وتصنيع آلات إنتاج الشرائح الإلكترونية المتقدمة (أشباه الموصلات) بقيمة سوقية تبلغ ٢٧٣ مليار دولار وبقيمة للسهم تجاوز ٦٣٤ يورو في مايو ٢٠٢٣. تعد ASML حاليًا الشركة السائدة والمهيمنة عالميًا في هذا المجال، وتتميز بتكنولوجياتها المبتكرة ومعداتها المتطورة التي تلبي احتياجات صناعة الشرائح الدقيقة للشركات الضخمة مثل Intel الامريكية و TSMC التايوانية و Samsung الكورية الجنوبية وغيرها من الشركات العابرة للقارات.

تأسست شركة ASML في عام 1984 في فيلدهوفن جنوب مدينة أيندهوفن الهولندية وبقيت تتطور الى أن أصبحت قوة عظمى في عالم التكنولوجيا . لقد بدأت كشركة ناشئة صغيرة بشراكة بين Philips و ASM في باحة خلفية لشركة Philips حيث كانت قد تركزت أبحاثها بشكل رئيسي في مجال تصميم وتصنيع آلات إنتاج الشرائح الإلكترونية في ضوء الليثوغرافيا. كانت البداية متواضعة بين عامي ١٩٨٥ و ١٩٩٠ من خلال إطلاق النموذجين PAS 2000 وPAS 2500 الذين فشلا في المنافسة وتحقيق أي تقدم في الأسواق العالمية ضد منافسين بارزين في حينها كشركة Nikon اليابانية. النقلة النوعية ستأتي في عام ١٩٩١ مع إطلاق الشركة لنموذج PAS 5500 الذي يعمل بتقنية الليثوغرافيا الغمرية Immersion Lithography لطباعة دوائر صغيرة على رقائق السيليكون، فما هي هذه التقنية ؟ وكيف تعمل؟

تقنية الليثوغرافيا الغمرية أو ما يعرف أيضا بتقنية الصبغ العميقة، هي عملية تُستخدم في طباعة الدوائر المتكاملة لصنع الشرائح الإلكترونية. تخيل أنك تقوم برسم صورة على ورقة بألوان مختلفة . إذا كنت ترغب في رؤيتها بوضوح فسوف تحتاج إلى إستخدام عدسة مكبرة لرؤية تفاصيلها الصغيرة . في تقنية الصبغ العميقة، تستخدم عدسة محددة جداً تسمى "عدسة مجهرية" لنقل الصورة المصممة بدقة على الشريحة الإلكترونية. تعمل العدسة على تكبير الصورة ما يتيح رؤية تفاصيلها الصغيرة جداً على الشريحة . توضع على الشريحة، بمساعدة العدسة المجهرية، طبقة رقيقة من الصبغة التي تساعد في حماية الشريحة وتسمح بتحديد المناطق التي سيتم فيها تطبيق التغييرات الصغيرة عليها لإنشاء الدوائر الإلكترونية . تتفاعل الصبغة ، عندما يتم تطبيق الضوء عليها، وتتغير في المناطق المحددة بالصورة المصممة. بعد ذلك تُزال الصبغة الزائدة ويتم تطبيق المراحل الأخرى لإكمال صنع الدوائر الإلكترونية على الشريحة. باستخدام تقنية الصبغ العميقة، يمكن إنتاج دوائر إلكترونية صغيرة جداً ومعقدة على الشرائح، الأمر الذي يساهم في تحسين الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر.

دفع النجاح الكبير الذي حققته تقنية الليثوغرافيا الغمرية، شركة ASML الى المضي قدمًا حيث أنها ، وبعد استثمارها بشكل مكثف في البحث والتطوير حتى عام ٢٠٠٠ ، نجحت بتقديم تقنية أكثر تطورًا من الليثوغرافيا الغمرية. أتاحت هذه التقنية الجديدة حينها، والتي عرفت بالمسح المزدوجTwinScan Lythography، الوصولَ الى إنتاج دوائر إلكترونية بدقة ٣٠٠ نانومتر حيث تم استخدام المياه كعدسات لتقليص طول الموجة والتردد وبالتالي المزيد من الدارات على الرقاقة. ثم توالت الأبحاث لتطوير هذة التقنية بشكل كبير مما أدى الى نسخة أكثر تطورًا عرفت بتقنية الصبغ بالأشعة فوق البنفسجية DUV Lythography والتي مكنت الشركة من الوصول إلى شرائح إلكترونية بدقة ٢٢ نانومتر. يتم في هذه التقنية استخدام ضوء خاص يُسمى "الأشعة فوق البنفسجية" لإنشاء الدوائر الإلكترونية على الشرائح، وهذا الضوء يكون لونه غير مرئي للعين البشرية. يتم تحضير الشريحة الإلكترونية ووضعها في آلة خاصة تُسمى "ماسحة ضوئية". يُرسل الضوء غير المرئي عبر عدسة دقيقة في الماسحة لإنشاء الدوائر الدقيقة على الشريحة. عندما يلمس الضوء الشريحة، يؤثر على الطبقات المختلفة على الشريحة ويحدث تغييرات صغيرة في المواد الموجودة عليها. هذه التغييرات تساعد في إنشاء الدوائر الإلكترونية والمسارات المتصلة بها. بعد ذلك، يتم إزالة الطبقة الزائدة وتنظيف الشريحة للحصول على دوائر إلكترونية نقية ودقيقة. بعد ذلك ستتوالى عمليات تحسين هذه التقنيات وإنشاء آلات أكثر دقة بحيث سيصل قطر الدارة الإلكترونية، الناتجة عن هذه الآلات، الى الحد الاقصى وهو ٧ نانومتر .

تجدر الإشارة الى أن شركة ASML لم تكن الوحيدة في هذا المجال من حيث البحث والتطوير. لقد تأسست المعرفة العلمية في مجال الدوائر الإلكترونية من خلال شركات AMD و IBM و Intel وبُذلت جهود كبيرة في الولايات المتحدة الاميركية ، تحت إشراف وزارتي الطاقة والصناعة تحديدا ، لتطوير التقنية في مجال صناعة الرقائق الالكترونية. وقد تجلى هذا في عمل العديد من الشركات الناشئة بين عامي ١٩٩٠ و ٢٠١٠ والتي قامت ASML بدورها بالاستحواذ على أبرزها كشركة سيليكون فالي غروب ٢٠٠١ وشركة بريون BRION ٢٠٠٧. وفي الفترة الممتدة من ٢٠٠٨ الى ٢٠١٤ قامت شركة ASML باستثمارات فاقت ٦ مليارات دولار في تقنية جديدة تعرف بتقنية النقش بالأشعة فوق البنفسجية المتطورة EUV Lythography.

تمثل تقنية EUV قمة التطور التقني حاليًا في مجال تصنيع آلات إنتاج الرقائق الإلكترونية حيث تبلغ الدقة في الشريحة الإلكترونية ٢ نانومتر. تتعامل هذه التقنية مع طول موجة الأشعة فوق البنفسجية المتطورة بمدى قرب 13.5 نانومتر، وتقوم باستخدام بلازما قطرات القصدير (Sn) المنبثقة والموجهة بنبضات ليزر (يعطي القصدير ذروة انبعاث عند 13.5 نانومتر من حالة الانتقال الذري)، لإنتاج نمط محدد عن طريق استخدام قناع ضوئي عاكس لتعريض قاعدة تغطيها طبقة حساسة للضوء. يتم إسقاط فطيرة السيليكون في فراغ وتوجيه ليزر عالي الدقة على ذرات القصدير المؤينة والتي بدورها تنتج البلازما. تقوم المرآة بالتقاط إشعاع الEUV المنبعث من البلازما وبدورها تنقل المرآة ال EUV إلى الرقاقة لتتشكل الدوائر الإلكترونية حينها.

حتى عامنا هذا، شركة ASML هي الشركة الوحيدة التي تنتج وتبيع أنظمة EUV لإنتاج الشرائح، وتستهدف عمليات تصنيع الشرائح بأحجام عملية 5 نانومتر و 3 نانومتر. في اجتماع الأجهزة الإلكترونية الدولي IEDM لعام 2019، أفادت TSMC التايوانية باستخدام تقنية EUV لعملية تصنيع بحجم 5 نانومتر في الطبقات المتصلة، عن طريق الخطوط المعدنية والقطع العامودي، حيث يمكن تطبيق القطع على الشعيرات أو البوابات أو الخطوط المعدنية. وفي اجتماع IEDM لعام 2020، أفادت TSMC أن أدنى مسافة معدنية لعملية 5 نانومتر قد تم تقليصها بنسبة 30٪ إلى حوالي 28 نانومتر من عملية 7 نانومتر، والتي كانت 40 نانومتر في الاساس.

تبلغ تكلفة انتاج الآلة الواحدة من EUV حوالي ٢٠٠ مليون دولار نظرًا للتكنولوجيا المعقدة التي تدخل في تصنيع هذه المعدات. فعلى سبيل المثال، فإن الأدوات المستخدمة في صناعة هذه الآلات يتم انتاجها في الولايات المتحدة الاميركية، أمًا الكيماويات والسوائل فهي تنتج في اليابان، والعنصر الأهم وهو العدسة البصرية والليزر فهما من إنتاج المانيا، وبالتالي فإن عميلة تجميع وتركيب هذه المعدات معًا لإنتاج الآلات النهائية هي عملية معقدة جدًا مما يحد من امكانيات ASML ويجعل الإنتاج محصورًا بسقف اقصاه ٤٠ آلة سنويًا. هذا يدل على أن شركة ASML الهولندية أصبحت شبيهة بشركات بوينغ وأير باص لصناعة الطائرات بحيث أن كل قطعة تصنع في دولة مختلفة وبالتالي اللجوء الى التنسيق مع أكثر من مورد عالميًا حتى أن بعض القطع قد تستغرق أشهرًا للتصنيع كعدسة زيس Zeiss الألمانية حيث يستغرق إنتاج الواحدة منها ٤٠ أسبوعًا.

السؤال المهم الذي يطرح هو ماذا بعد؟ ما هي احتمالية التطوير أبعد مما وصلت إليه ASML حاليا خصوصًا مع إزدياد الحاجة الى إنتاج رقائق إلكترونية بدقة تفوق ٣ نانومتر؟ هل يمكننا التصغير أكثر ؟ هنا نأتي على ذكر قانون مورMoor’s Law. قام قانون مور أساسا على الملاحظة وعلى التوقع المستند إلى اتجاه تاريخي. إنه ليس قانوناً في الفيزياء بل علاقة تجريبية مرتبطة بالمكاسب المستمدة من الخبرة في الإنتاج. لقد أخذت هذه الملاحظة اسمها من غوردون مور، مؤسس شركة فيرتشايلد سيمي كوندكتور وشركة إنتل (والرئيس التنفيذي السابق للشركة)، الذي افترض في عام 1965 تضاعفاً سنوياً في عدد الترانزستورات في الدوائر المتكاملة وتوقع أن تستمر هذه السرعة في النمو لمدة عقد آخر على الأقل. وفي عام 1975، وأثناء النظر إلى العقد التالي، قام بتعديل التوقعات لتصبح التضاعف كل سنتين، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 41%. وعلى الرغم من أن مور لم يستخدم دليلا تجريبيا في توقع استمرار التوجه التاريخي، فإن توقعاته استمرت منذ عام 1975 وأصبحت تعرف الآن بـ "قانون" موور .

لقد تم استخدام توقعات موور في صناعة الشرائح الإلكترونية لتوجيه التخطيط طويل الأمد وتحديد أهداف البحث والتطوير، وبالتالي عملت توقعاته ، إلى حد ما ، كنبوءة تحقق نفسها. ترتبط عمليات التقدم في الإلكترونيات الرقمية، مثل انخفاض أسعار المعالجات الميكرويةMicroprocessors وزيادة قدرة الذاكرة (RAM والفلاش)وتحسين الحساسات وحتى عدد وحجم البيكسلات في الكاميرات الرقمية، ارتباطًا وثيقا بقانون مور . هذه التغييرات المستمرة في الإلكترونيات الرقمية كانت قوة دافعة للتغيير التكنولوجي والإنتاجية والنمو الاقتصادي.لم يتوصل خبراء الصناعة إلى توافق حول متى سيتوقف قانون مور عن التطبيق. يقول مهندسو المعالجات الميكروية أن التقدم في مجال شرائح الدوائر المتكاملة قد تباطأ على نطاق الصناعة منذ حوالي عام 2010، وهو أقل بقليل من السرعة المتوقعة بموجب قانون مور. في سبتمبر 2022، اعتبر الرئيس التنفيذي لشركة نفيدهاNvidia جينسن هوانغ أن قانون مور قد انتهى، بينما كان الرئيس التنفيذي لشركة إنتل بات جيلسنجر يحمل رأيًا مغايرًا.

تعمل حاليًا شركة ASML على التكنولوجيا المتقدمة من تقنية الEUV والتي تعرف بتقنية الطباعة الحجرية ذات الفتحة الرقمية العاليةHigh Numerical Aperture EUV Lythography والتي تهدف الى صناعة آلات قادرة على انتاج شرائح إلكترونية بدقة ٢ نانومتر حيث أن الفرق الجوهري مع تقنية EUV العادية هو بالعدسة المعدلة من زيس Zeiss الألمانية التي ستتيح امكانية تكبير مجهرية بقدرة تزيد عن ٨ مرات في الاتجاه الواحد وهذا يعني بالتاكيد عدد اكبر من الترانزستورات في المساحة نفسها وبالتالي شرائح إلكترونية ذات قدرة معالجة أكبر.

هنا تجدر الاشارة إلى أن ASML وغيرها من الشركات في هذا المجال تؤثر وتتأثر بالعلاقات الدولية وسياسات الدول بشكل مباشر، وأبرز مثال على ذلك هو الصراع الحالي بين الولايات المتحدة الاميركية والصين حيث تدخلت الأولى لدى هولندا للتأثير على شركة ASML ومنعها من توريد أي من الآلات التي تعمل بتقنيات EUV إلى الصين لأن الشرائح الإلكترونية المتطورة تستخدم في الصناعات العسكرية ومعدات الاتصالات الحديثة كال 5G، فمن يملك التكنولوجيا والتقنية يملك المستقبل ويسيطر على العالم.

رامي شلهوب - مهندس ومصمم برمجيات سحابية / هولندا