بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 حزيران 2023 12:00ص أُخرجوا من أوكاركم أيّها «الشّعراء»!

حجم الخط
يختبئ «شُعراء» لا يستطيعون ابتكار لغةٍ خاصة بهم، خلف شاعر كبير (أو أكثر) صنعَ لغتهُ وزرعها في الحاضر وأثّر في مَن حوله، و«يكتبون» من مفردات ذلك الشاعر وتركيباته وعوالمه، ويستحضرونه ذهنياً عند الإمساك بالقلم والورقة أو الكومبيوتر، ولكي يكتمل النقل بالزعرور يستعيرون صوته في الإلقاء ويتخيّلون أنفسَهم يصوّتون مثلَهُ لاكتمال عِدّة «الشّغل».. تماماً كحالة التمثيل، وعند السؤال يجيبون متباهين أنهم تأثروا بفلان ويشرّفهم أنهم من مدرستهِ! لكن الأدهى هو جنوحُهم إلى اعتبار أنفسهِم يضيفون إلى مدرسة الشاعر ولا يقلّدونها، ويقدّمون نماذج من تلك «الإضافات» التي لا تُقنعُ أحداً، بل تستجلبُ الضحك؟!
وهؤلاء «الشعراء» كُثُر ولا يمكن قوّة في الكون أن تقنعهم بأن ما يقولونه هو ادّعاءات فارغة، وإن الإنطباعات عنهم في الحركة الشّعرية تصبغهم بالتقليد المملّ، وأنهم بالفعل تُبَّعٌ مصفقون لشاعرهم ولأنفسِهم، والزمن لا يعترف بالنُّسَخ عن الأصل. فالأصلُ يبقى والنّسخةُ تُرمى.
قلّةٌ هم الشعراء العرب في القرن العشرين الذين لا نزال نسمع ترددات قصائدهم، وظلال أساليبهم، وموسيقى أفكارهم (سعيد عقل، نزار قباني، أنسي الحاج، الأخَوان رحباني، محمود درويش وبعضٌ غيرهم) في شِعر أبناء هذا الجيل، تحديداً الجيل المتوسّط الذي عاصر أولئك الشّعراء، وارتبط بصداقات معهم، وهامَ بهم أحياناً، وراح يعتبرهم نموذجاً يُحتذى في الكتابة الشعرية.. إلى الأبد!
المنطقة التي بلغها أولئك الشعراء الحقيقيون، عالية جداً، ويحاول «شُعراءُ» تَقَفّي الأثرِ منذ سنوات، أن يتمثّلوا بهم نصوصاً وتراكيب شِعرية، من دون أن يرفّ لهم جفن. فالعجز عن صناعة وتوليد ذاتٍ ممتلئة وقادرة، يدفع بهم إلى الاحتماء بتجارب غيرهم والتمسّك بها مع عدم الاعتراف أو بالاعتراف المغطّى بتبريرات عظمة أولئك، واستحقاقهم لوجود مُكمّلين لهم. لا بل بعضهم يتباهى بأنه «سليل» هذا الشاعر أو ذاك، وأفظعُ ما يفعلُونه معه هو المحاكاة، أي «استلهام» طريقته وأنساقه في اللغة على أنها ثوابت جَمالية أبدية، طمعاً بتأثير في السامع. وثمة من يضع أسباباً وطنية لما يفعل «للضغط» على «مجتمع» الشّعر كما لو كان ذلك الفعل رسالياً.
وجودُ «الأنا» الفنية الإبداعية أو عدمُ وجودِها لدى شاعر ما، يعود إلى حالته الإدراكية الواعية بأن ما يكتبه ينبغي أن ينطلق منه لا من الآخرين. فالآخرون من الشعراء الذين نُعجبُ بهم يسكنون الذاكرة ونستشهد بشِعرهم مع متعة الإستذكار مِن «أنا» أُخرى، ونتأثر بهم أحيانا (في مراحل البدايات الطبيعية) ونحاول الكتابة على نهجهم، لكن «الأنا» الخاصة لا بد من أن تنفجر في فترة من الفترات وتشكّل عصباً خاصاً بنا، من شكل القصيدة إلى مضمونها إلى لُغتها إلى أفكارها، وهذه المرحلة هي بناء الذات الحقيقية حيث تحتدم متطلّبات الخلق عندنا وتتكرّس بناء لرؤيتنا الخاصة لأنفسنا وللعالم وللشّعر الذي نكتبُه. وهذه العملية صعبة جدّاً وتحتاج وعياً كاملاً لما نكتب وكيف نكتب ولدورنا الشخصي في حركة الشعر في مجتمعنا، ويمكن أن تَحدُثَ حربٌ مبارَكة في دواخلنا من أجل تلك الإستقلالية، ذلك أن بعض الذي نهيم به من أشعار الآخرين قد يبقى مسيطراً علينا إذا لم نساعد أنفسنا في الخروج منه. أغلب صناعة الذات الشّعرية في تاريخنا العربي وربما العالمي بَدأَتْ من هنا: نسيان ما نحفظ، وخلْق أدواتنا ولغتنا وأسلوبنا وعالمنا الشعري الذي قد يكون فيه شِعرُ العالَم لكنْ عند الكتابة تنعتق الروح الشعرية الخاصة وتحلّق بعيداً من أي تقصُّد في استيحاء أو استمالة فكرة من هنا أو هناك. فالروح الشعرية التي تلتصق بالآخرين ليست روحاً شِعرية بالمعنى الجدّي، بل هوىً، أما الروح الشعرية فهي تلك التي أحببناها عند هذا أو ذاك من الشعراء ولم نقلّدها بل اجتهدنا في أن نوازيها في القيمة لا في النسج على منوالها أو أن نتخطاها بما ينبغي من امتلاك الغِنى والعمق واجتراح أسلوب خاص، يُقرأ فيشار إلينا بِالبَنان.
لستُ أدري ما قيمة «الشاعر» أمام نفسه حين يدرك أن كل ما يقرأه عند شاعر كبير يصبح مباحاً لهُ؟ هذه سرقات مفضوحة ولو حاول إخفاءها بألف حيلة. فكيف إذا كان يستقرضُ منه طريقته في الكتابة ومفرداته وتركيبته للصّور والمعاني! إنّ المثال الأعلى في الشعر ينبغي أن ينهار في داخلنا. نَعَم ينهار. لا ليصبح عدوّاً نمزق ملابسه ووجهه، بل لنسلك درباً آخر مختلفاً عنه. والأجمل أن نظلّ على حبّنا له وتكريمه وتقديره لكنْ كشخص في حالِهِ لا كشخص في حالِنا نُحِلُّه محلَّنا ونتكيء على إنجازاته. أكبر مثال في الشّعر العربي قديماً وحديثاً لا يُغْني عنا شخصياً شيئاً، ونحن نستمر أم لا، نؤثّر أم لا، نترك بصمةً أو لا.. راجعٌ لنا نحن في تحديد ما نريد.
نعرف مثلاً أن المتنبي كان شاعراً كبيراً في عصره، والدراسات النقدية تقول أنه استفاد عميقاً من تجربة أبي تمّام الشعرية وغيره، ولكنّ ما بقي من شِعره العالي، بقيَ لأنه في كتابته أو «ارتجالهِ» كان يبحث عن المعنى الإضافي على ما فات من الشّعر قبلهُ، وكان ساعياً إنسانيّاً وشِعرياً خلف ما يعزّز بيته المعروف «وما الدهرُ إلّا من رواة قصائدي/ إذا قلتُ شِعراً أصبحَ الدهر منشِدا». ولو لم يكن لقبه المتنبي لكان يُفتَرَض بنا أن نسميه المتنبي لأنه، في بيت واحد، تنبّأ لنفسه بالخلود وخلّد وهو يتربع في صدارة الشعر العربي حتى اليوم. فتصوّروا شاعراً متأثراً بالمتنبي فبماذا يستطيع أن يتخطاه أو يتفوّق عليه؟! أكثر ما سيفعلُه هو استنساخه وتقليده، وقد فعَل ذلك كُثُر وغمَرَهم الزمان. أما إذا كانت له لغتُه لا لغة المتنبي، وصوَره لا صُوَر المتنبي، وأفكاره لا أفكار المتنبي، ولو كان أقلّ منه موهبةً بكثير، فسيبني لتجربته مكانها الصحيح غير المرتبط بأحد، وهنا قطعاً سيجد من يفتح سجلّه الشّعري انطلاقاً من خصوصيته.
في لبنان، أهلكوا جبران خليل جبران لكثرة ما تخيّلوا أنفسهم مكانه، وتوسّلوا سطورَه و«استنشقوه» على أمل أن يخرج في زفيرهم فتاهوا قبل الوصول إلى ضريحه لا إلى حياته!
ويحط الشاعر سعيد في رأس قائمة شُعراء الكلاسيكية. هذا الرجُل شيّد أبراجاً شاهقة من الشّعر لها تفاصيلها والقُطَب السرية الخاصة بها، وإضافتُه على الشعر العربي واضحة في معانيه ومبانيه. لكنه مُبتلى بجماعة عددها كبير من «الشعراء» الذين يبيتون تحت جناحيه أو ما يظنون أنهما جناحاه، ويلجأون إلى التوليف «السّعَقلي» لا التأليف، ويختارون بعض كلماته ويجرّون أسلوبه جرّاً إليهم، ويُدَوزنون الجُمل على «دوزانه» المشهود معتقدين أن هذا كافٍ ليكونوا شُعراء.. غير عابئين برأيٍ كاشف ولا بنقدٍ عارف فارضين أسماءهم على الشّعر والشعراء إمّا عبر علاقات عامة متسوّلة، أو عبر نقاط ضعف في آخَرين لا يعرفون المعايير ولا يهتمون بها! ألم يعلم هؤلاء، كم من الشعراء قبلَهم حاول التقاط «لعبة» سعيد عقل في اللغة، فاستخدمها، ولم يعِش في «مسيرته» أشهُراً لأنه كان مفضوحاً ومُداناً من أغلب الجمهور. وإذا كان في رأي أحد اليوم أنه يستطيع تكرار تجربة سعيد عقل و«أخْذ مكانه» فهو لا شكّ واهم لأن أثَر عقل «الأصلي» ما زال هنا!
نزار قباني، هو أيضاً «مُلتقى» لمجموعة من «الشّعراء» الذين لا يكفّون عن تسلُّق قامته متوهمين الوصول إليه، بعناصر قوّته هوَ والتي هي الأسلوب والسلاسة العميقة والتجربة الإستثنائية في تخليص الشّعر من الجلباب.. وعبَثاً يتسلّقون!
محمود درويش.. هناك «شُعراء» مفتونون به يظنون أنه بسهولة بات شاعر مقاومة الظلم وناطقاً باسم حرية الشعوب والقصيدة، فيستأنسون بما كَتَبَ من حريق اللغة والمعاناة ليكتبوا، غافلين عن الرحلة المرهِقة والصعبة بين «سجّل أنا عربي» التي رفضها أواخر أمسياته وآخِر إبداعاته.
أنسي الحاج بدوره، ضفَر جبين الحداثة بقصيدته النثرية الجديدة، وبعض الجدُد ينسبون نصوصهم روحياً إليه وهُم أقرب إلى المُبَصّرين الباحثين عن تفاسير لكوابيسهم في اليقظة!
وأكثر فأكثر: ليس كل من حاول الكتابة ساخراً من سراب بلاده وحريته المصلوبة بحروف من اللحم الحي كان محمد الماغوط.. وليس كل من جرّب تحريك الألوان والبشر والأشياء المتآلفة والمتنافرة بمفاتيح الأطفال كان شوقي إبي شقرا.. وحتى أدونيس الذي تحوّلت كتاباته وقصائده منذ ربع قرن تقريباً تشخيصاً لحالة الوسواس القهري في الإضطهاد والرفض المُعبَّر عنه بالشِّعر «الفِكْراني»، كان أدونيس..
كل واحد من هؤلاء كان لهُ وجوده الشعري الخاص، والهمّ المقيم بين جنبيه، وكان مختلفاً ومتمايزاً عن الآخرين، وإذا كان بعضهم قد تأثر ببعضهم في البدايات الأولى (وهذا واضح) فبسرعة كان الرجوع إلى النفس، والمتابَعة، كلٌّ في هويته وتوجهاته وتشييد عمارته الشعرية، بهندستها الخاصة وتفاصيلها ونوافذها على الزمن. وكلّهم كانوا في تيار الحداثة، حسب فهم كل واحد لها، لكن بات كل واحد بأسلوبه تياراً قائماً بذاته وله مؤيدون ومريدون، فاستمروا هُم وذهبَ التابعون.. مع الريح!
وفي الشّعر المَحكي هناك نموذجان:
الأخَوان رحباني وجوزيف حرب. بعض «شُعراء» المحكية لا يستطيعون مغادرة المربّع الرحباني فينقلون من نبع الصّور وألق المعاني ما قدّرَتْهم «ملكاتهم» ويعيدون صياغته، فتَظهر الفوارق بين النّور والظلّ، بين الحقيقة والادّعاء كاملةً.. وهناك آخَرون استفاقوا على الشاعر جوزف حرب منذ سنوات، ودواوينه المحكية، وطفَقوا «يتبارون» معه معتقدين المسألة صفّ عِبارات بانتظار قَفلة جيدة، متناسين، والأرجح خالطين بين العُملة الصحيحة والأخرى المزوّرة!
وإذا دقّقنا فلدينا الأدهى، وهم «الشعراء» الذين طوّبوا كتاباتهم حداثية، فتقرأهم فلا يغيب عن بالك للحظة أنك تقرأ ترجمةً عن الأجنبية، مع أنها قد لا تكون ترجمة. فهؤلاء اختاروا مثالهم من شُعراء غربيّين واقتبسوا منهم، وتأبطوهم وجلسوا في صفوف أمامية رغماً عمّن لا يُعجبهُ!
نقدّم أمثلة لا أكثر. وهناك ما لا يحصى منها. فكأن بعض «الشّعراء» يتخذون من كبار الشعراء أستاراً يقفون خلفها، أو حتى أوكاراً يلجأون إليها ثم يخرجون على الملأ بما يَدْعونه جديداً شِعرياً لهم، وإذا طولبوا بما يتخَرّصون فالنتيجة عندهم: «هاتوا بيت الله لنْهِدّوا»..
والتشبيه المعبّر عنهم هو أنهم كالسائرين في الصحراء وراء زعيمهم، هو يمشي في الطليعة وهُم خلفه سائرون يضعون أقدامهم في الرمل، مكانَ موقع أقدامه بالتمام.. فلا يبدو أن أحداً عبَرَ خلفه بالمَرّة!
فإذا كان الهدف «الطَّموح» هو مزج الطيّب بالخبيث، والغثّ بالسمين، والعيد بالمأتم فذلك لن يحصل. لم يحصل من قبل ولن يحصل اليوم. والخروج من الأوكار هو الأسلَم إلى رحْب فضاءِ اللغة الخاصة المشبوبة، والخَيال الخاطف، والمعاني الجديدة، وذكاء الأسلوب الفني.. وهي العناصر التي قام بها شِعر العالَم، ويقوم عليها الشّعراء.