بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 آب 2023 12:00ص «أبو سليم» نموذجاً عن أزمة: نهاجمُهم في زمَنهم.. ونكرّمُهم في الكَبَر!

حجم الخط
أُراقب باهتمام شديد، الإحتفاء المتنقل بالكاتب والممثل الكوميدي أبو سليم الطبل. لم يَعُد اسمه على الهوية مهمّاً، ولا كنيتُهُ، ولو سألتَ من هو صلاح تيزاني لعرَفَتْه قلّة. أبو سليم الطبل، واختصاراً أبو سليم. هو من الماضي الذي نسمّيه زمناً جميلاً، ونحنو عليه اليوم، ونحبُّه، ونرتاح لتكريمه في كل المناطق اللبنانية بلا استثناء، ونقول إن هذا ليس إلّا جزءاً من التعويض المعنوي الحقيقي والعفوي من الناس، والمؤسسات الثقافية والنوادي الإجتماعية في غياب التعويض المالي الذي لم تسمع به مقرّات الحكم في لبنان ولا آمنَت به، ولا أدركَت مدى أثره على الفنون والأدب في عِيشةٍ معقولة ومقبولة لكبار من الفنانين، خطفهم الموت قبل أي بسْمةِ اهتمام وعرفان وتقدير.
لكنّ المشكلة الأكبر في بلدنا هي نحن معشر الأدباء والنقاد والفنانين. هناك فنانون مُحترَمون جاهدوا وتعبوا وعَرقوا على خشبات المسرح وفي استديوهات التلفزيون، بمدى ستين عاماً وأكثر، قدموا فيها عُصارة العقل والخيَال والمعرفة وكنا نستقبلُهم مع كل عمَلٍ مسرحي أو فنّي بالقصف الصاروخي المدَمّر. ولا يظنّنَ أحدٌ أن في هذا التعبير مبالغة، أو جَلْدَ ذات، بل هي الحقيقة المؤلمة. فمن هو الناقد الذي كتب عن مسرحيات فرقة أبي سليم وبرامجه التلفزيونية «كلاماً ناعماً» في كل مراحل حياته؟ الصحافة طوال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي أذاقَتهُم زوم الزيتون النقدي كلما كانوا يعودون بعمل! أُسمّي فرقة أبي سليم، وأُسمّي معه «أبو ملحم»، وأُسمّي محمد شامل في «الدنيا هيك» وغيره من الأعمال، وأُسمّي شوشو.
فالحرب من بنادق - أقلام النقاد، ومن رجال ونساء المسرح «الطليعي»، ومن الفنانين الذين تأثّروا سلباً بظهور شوشو، على هذا الفنان البسيط الفطري المرَكّب معاً كانت أشرس من أيّ حرب أخرى. مع أبي سليم وأبي ملحم ومحمد شامل وأعمالهم، لم يكترث «المسرحيون الطليعيون» كثيراً، لأنّ اكتراثهُم وسهامَهُم ونظرياتهم الفوقية كلّها كانت مُنْصَبّة على شوشو، ذلك أنهم كانوا في عز انطلاقتهم «الإختبارية» الآتية من العلْم الغربي ومدارسه المسرحية، وكانوا يعملون على أساس أنهم هم البداية الصحيحة للمسرح بعد المحاولات السابقة الموسومة بالعشوائية و«المدرسية». جاء شوشو واكتسح المجال «الجوّي» الذي كانوا يهيّئونه لتحليقهم، فإذا به يحلّق عند الجمهور أعلى منهم ويفرضُ نفسه عليهم وعلى كل المشككين الذين، تذكُر كتب مذكرات الفنانين، أنهم عادوا متأخرين جداً فتفهّموا موهبة شوشو الطبيعية وعلاقته التي ترسّخت بالجمهور سريعاً، وأكثر: حاولوا العمل معهُ، وعملوا ودقّقوا بأسلوبه لفهم تلك الظاهرة الكاسحة... والأصعب أن رضا جماعة المسرح التي حاولت استيعاب شوشو، لم يترجَم عند النقاد إلّا زيادة في التعنّت فبقي النقاد بأغلبهم مصرّين على أن شوشو فلتة شَوط غير جديرة بأن يُكتَب عنها إيجاباً أو مديحاً، لأنها إلى زوال سريع. وقد قال رئيس تحرير مجلة فنية مرة عنه «أبعدوه عن الشاشة فإنه «ينزع» أبنائنا وأحفادنا بصوته وحركاته والسخافات التي يقدّمُها»!
أبو ملحم، هو الآخَر، كان صديق البيوت والعائلات اللبنانية وكانت القصص التي يقدمها في برنامجه التلفزيون تلمس حياة المجتمع اللبناني ودفاعه عن الأخلاقيات والمبادئ الإنسانية. كانت لأبي ملحم طريقته الفطرية في كتابة النصوص، ورسْم الشخصيّات والحوارات، وكان يتكوكب حول الشاشة الصغيرة عائلات الحيّ أو البناية والجيران إبان كانت أجهزة التلفزيون في بداية انتشارها، وكانت البيوت التي تقتني تلفزيوناً قليلة نسبياً، وغريب حين نتذكر أنه في غرفة التلفزيون كان أهل البيت يمدّون بِساطاً أو أكثر على الأرض ليحضر الأولاد بأعداد، لا أعتقد أنه يمكن أن يتقبّلها أحد اليوم في بيته. لقد كانت الدنيا بخير والعائلات بخير والنفوس بخير لذلك سمّي زمن أبي ملحم بأنه زمن الخير، فضلاً عن أن الأدوار «الشريرة» التي كان يجسّدها الممثل البديع إيلي صنيفر الذي يقنع الجمهور بما يقوم به، ودور أبي ملحم وأم ملحم وعامل المقهى درويش وبعض الممثلين الآخرين الذي كانوا يأتون في حلقات ويغيبون في أُخرى... كلّهم تمثيلاً كانوا طبيعيين كأنهم في الحياة العادية، وكانت حكاياتهم مأخوذة من مشاكل البيوت في الحب والزواج والطلاق والفساد والإدمان و«الزعرنة» على الطيبين من المواطنين.. إلخ، وكان أبو ملحم مُقْنِعاً لفئات كبيرة من المجتمع اللبناني في ما يقدّمه. وكذلك كان النقاد في الصحافة والمجلّات يلقّنون أبي ملحم أسبوعياً دروساً في القصص (حتى لا تكون سطحية!) والسيناريو (حتى يكون متراصّاً!) والحوار (حتى يكون منطقياً!) وتركيب الشخصيّات (حتى يكون مهنياً!) أملاً في تعديل أو تغيير ما يفعله، من دون جدوى. ولو حكَمنا كما نحكم اليوم على الرايتنغ وعدد الإعلانات في كل حلقة، لكان أبو ملحم «النمبر وَن» في كل البرامج وكذلك أبو سليم وشوشو ومحمد شامل عبر أعمال تلفزيونية بمقاييس ذلك الزمن. وقد قال ناقد في صحيفة ذات مرّة عاد فيها برنامج أبي ملحم إلى الشاشة «مَن طلَب من أبي ملحم أن يعود»؟
لم يكن برنامج «الدنيا هيك» لمحمد شامل أول أعماله التلفزيونية، بل كان من أواخرها تقريباً، وأعماله كلها، إذاعياً وتلفزيونياً، كانت شعبية بامتياز، إلّا أن «الدنيا هيك» كان ظاهرة قائمة بذاتها، فقد فصّل شامل عدداً من الكاركتيرات الكوميدية الخفيفة أسندها إلى عدد من المحترفين في هذا النوع من الأعمال من فريال كريم إلى إلياس رزق إلى آمال عفيش، إلى ابنه علّوش، إلى ماجد أفيوني، إلى غيرهم، ودخل هذا البرنامج الفكاهي اللطيف إلى كل البيوت اللبنانية بذكاء الحبكة والعبارة والأداء، وحسَم الحضور لصالحه.. في وقت كان فنانو «الطليعة» يسخرون منه، ونقاد الصحف والمجلّات يصبّون جام غضبهم عليه بوصْفه «سطحياً»، حتى أنّ ناقداً متفذلكاً، لامَ في أحد مقالاته، المؤلف الموسيقي توفيق الباشا كيف وافق على أن يضع لحن المقدمة الغنائية لهذا البرنامج، بنفسه، والبرنامج لا يستحق أي «طقطوقة» لحنية من أي مبتدئ كما قال!
ومحمد شامل، صاحب الحرفة النبيهة في تشكيل الشخصيّات لأعماله، لم يُعِر النقد المتفلّت من أي معايير واضحة أو ثابتة أي اعتبار، وضرب «الدنيا هيك» الرقم القياسي في استقطاب شركات الإعلان، ونسبة المُشاهدة كانت واسعة في بدايات انتشار هذا النوع من الإحصاءات. وسنوات عدّة استمر «الدنيا هيك» ناجحاً ومحبّباً ومضحكاً بمواقفه وعذوبة أداء ممثليه التلقائيين، واستمر تجاهل النقاد له... حتى إذا ما توقف عرضه بسبب الحرب في لبنان، أشهراً عدة، رأينا النقاد أنفسَهم يكتبون متسائلين لماذا لا يعود «الدنيا هيك». وشامل قيل عنه مرّة في الصحافة «نصوص ركيكة وشخصيات تافهة ولهجة محلّية ممغوطة ولا يتخلّون عنه»!
لست أدري ما هو ذلك الشعور الفوقي الذي ينتاب النقاد وهم يتابعون عملاً تلفزيونياً أو مسرحياً كوميدياً أو اجتماعياً (في أيام عرْضه) بحيث يرونه من «فوق»، وهذه الكلمة بالضبط هي المشكلة في ممارسة النقاد دورهم، فإنَّ تخيُّلَ أنفسهم في مكان أعلى من رؤية الكاتب والفنان يضع لديهم، زوراً وادّعاءً، قوة أو سُلْطَة تشي بأنهم أكثر إدراكاً وبصَراً من الآخرين، فيَعدِمون العمل أصلاً وفصلاً، ويعدمون أبطاله كتابة وإخراجاً وتمثيلاً. ولو أنهم يتركون طريقاً لعودتهم لكان يخِفّ الحِمْل، لكنهم يقفلون الأبواب ورائهم إلى غير رجعة حتى للتصحيح ومراجعة الذات.
فهل الفنانون «المُتعلّمون» والنقاد «المتخصّصون» وأحيانا عابرو السبيل في الفن والنقد، يشعرون بالأهمية «الأبوية» على الآخرين أكانوا من ذوي الإحتراف والتمكّن والإبداع، أم مبتدئين، ويعتبرون المنابر التي يعتلُونها تخوّلُهم ذلك؟ والجواب نَعَم. ونقاد الأعمال التلفزيونية، وهم موضوع المقالة، الذين تعرّضوا بالنقد الأسْوَد لنماذج ناجحة ومجلّية في مجالها كفرقة أبي سليم، وأبي ملحم، ومحمد شامل، وشوشو، ليس مقبولاً منهم أن ينسبوا الفنانين الذين أطاحوهم بالمواعظ والتوصيات والملاحظات، إلى الزمن الجميل، لأنهم يُظهرون الجهل الماضي عندهم، والمحاباة المستجدّة في ما يقولون ويفعلون.
لكن، هل كل عمل مسرحي أو تلفزيوني شعبي، أي يختلط بالناس وأفكارهم وهمومهم الكبيرة والصغيرة، يكون عُرضةً للنقد والتجريح كما حصل مع الأسماء التي ذكرناها؟
إن مجرّد ذكر تعبير «مسرحية شعبية» أو «برنامج تلفزيوني شعبي» ينبغي أن يوحي بأن قصّته مأخوذة من الحياة اليومية، وشخصيّاته مستَلّةٌ من الواقع، ومواقفه تحاكي مواقف نصادفها دائماً، وحواراته هي حواراتنا في كل مكان. وبالتالي على الناقد أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة التي تختلف عن حقائق أعمال فنية أُخرى قد لا تكون شعبية. ففرقة أبي سليم الطبل هي مزيج من التهريج المدروس (كما عند فهمان) والكراكتير المبسّط (كما عند أسعد) والأنفعال التجاوبي/ ضابط الإيقاع مع الجميع (كما عند أبي سليم) والبخيل الأبدي الخفيف (شكري شكرالله نشكر الله) والقبضاي الطيب (أبو نصرة).. وهكذا، فهؤلاء لا يحفظون أدوارهم كما وضعها الكاتب أبو سليم، بل غالباً يأخذون رؤوس أقلام المشهد ويدخلون الأوستديو، وأغلب ما يفعلونه إرتجالي يوافقُ اللحظةَ التي تمرّ بينهم، والمهم أن أحداً منهم لا يغادر كاركتيره الأساسي قيد أُنمُلَة. هذه وحدها مشقّة كبيرة، «تربّى» عليها الفريق كلّه واعتادها وباتت تحصيل حاصلٍ. وقد دمَغَ الفرقة أحد النقاد، خلال مقال عنيف «مهرّجون يتسوّلون العمل بمال الدولة الحرام». والفرقة كانت لا تدّعي أنها تؤدي رسالة غير رسالة إضحاك الناس وتسليتهم عبر شخصيات معينة حفظها الجمهور، وكانت مؤثرة في المجتمع الفني. بلى.. وإلّا ما الذي كان يدفع الأخوين رحباني إلى طلب مشاركة بعض عناصر الفرقة (أبو سليم، وأسعد، وفهمان) في أفلامهم السينمائية وأحياناً المسرحية لولا ذلك الحضور المؤنس لهم في الذاكرة، ولولا شعور الأخوين، بأن هؤلاء كممثلين، محترفون جيداً ويتقمّصون أدوارهم بعناية؟
شوشو، الراحل في منتصف السبعينيات، يُعدُّ اليوم لدى الجميع، بمن فيهم معارضيه الأشداء يوم كان مسيطراً، من كبارنا أهل «الزمن الجميل» وأوّلَ بُناة المسرح الشعبي الوطني، لا بل يعتبرون أسلوبه التمثيلي الذي نعتوه بالسخيف من دون رَفة جفن، أسلوباً خاصاً لم يستطع أحَدٌ أن يجاريه في الابتكار أو يؤثّر تأثيره.
وسيذكُر اللبنانيون طويلاً أنه إذا كان ذلك الزمن، زمنَ البراءة والبساطة واجتراح الأفكار في أُطر تقليدية من بنَات علاقات تلك الأيام الأقرب إلى الفطرة النظيفة غير المجرَّبة فنياً.. فإنه يُسجّل لأولئك الفنانين والكتّاب أنهم لم يخرجوا عن معطيات الأدب الشعبي النبيل، الراقي حتى في «تخَلُّفه»، ولم تصدر منهم خلال ثلاثين عاماً من شُغْلِهِم، كلمةٌ بذيئة أو لفظة جنسية أو جُملة فيها إيحاء غير أخلاقي.. وكانوا يُضحِكون الناس ويرفّهون عنهم أكثر بكثير مما يفعل «عباقرة» اليوم في البرامج الإنتقادية الذين لا يوفّرون التعابير الجنسية الفاضحة الواضحة، والسُّباب وحتى الأفخاذ والصدور «والمُغريات» النسائية كلها لجذب «الرايتنغ». فماذا يمكن أن يقال عنهم ذات يومِ مقارَنةٍ، غيرَ استثمار واستغلال و«تآمُر» على المقاييس الموضوعية للفنون والبرامج، وحشر الجمهور في خانة إهانة الذوق؟
وفي عودة إلى موضوعنا، يقول علم النفس، إن الذين انتقَدوا ظُلْماً وعدوانية (شخصاً أو عملا فنياً بعينِه) من مواقعهم كائناً ما كانت، وبقسوة، سواء من الفنانين الذين «يميزون» بين أعمالهم وأعمال كل الآخرين، أو من النقاد، يشعرون بعد انقضاء سنوات وزمن، بالندم على ما فعلوا وكتبوا من الآراء السلبية خصوصاً حين تكون أناهُم الفنية مسيطرة وتعادي غيرها حباً بالذات فقط في مراحل تكوينها وتعاظُمها، أو حين تكون آراؤهم غير منضبطة في إطار نقدي موضوعي، فضلاً عن أن التشاوف النقدي يسوّغ لهم هذا الفعل في تقدير أنفسهم أعلى كعباً. ومع الندم، يسري إحساسٌ بوجوب تصحيح ما كان، فتولدُ أفكار تتعلق بالإعتراف بالخطأ، ويصبح «طبيعياً» عندهم أن يتنازلوا من الأبراج «المائية» العالية، وهي بلا دعائم، ليُسَوّوا نظرتهم. يضافُ إلى ذلك أن عدداً من الفنانين اللبنانيين يموتون مرضى أو عاطلين من العمل، فترتسم علامات الإعجاب على الوجوه التي كانت مكفهرّة تجاههم، وفي هذا نوع من الشفقة الإنسانية التي من المؤكد أن الفنان الأصيل يكرهها ويعتبرها تبخسُه حقه مرة أخرى. لم يحسن لبنان الدولة، (ولا المؤسسات المدنية) الإنتباه إلى مواهب فنانيه الكبيرة، ولم يُعطَ فنان كبير التقدير الذي يستحقّ... وأمّا الرعاية فميؤوسٌ منها من الأساس.
من هنا فإن الإحتفاء بالكاتب والممثل صلاح تيزاني وقد جاوزَ التسعين عُمراً، كونه الحيّ الوحيد الباقي تقريباً من ذلك الجيل، هو جهدٌ مشكورٌ. صحيح أنه معنوي وأخلاقي وتكفير عن ذنب غالباً، ولدى البعض هو وجاهة لهم، إلّا أن مشاعر أبو سليم وأفكاره تجاه هذه المناسبات، طيّبة وتنمّ عن احترام للجهاد «المقدس» الذي يخوضه الفنان اللبناني عشرات السنين المتواصلة، ولا بد من أن يكون نتاجَ أصالةٍ في النظرة الموضوعية إلى الأشخاص، ووليدَ شعور بضرورة إعادة النظر في المعضلة الوطنية حقاً التي تقول إن المبدعين اللبنانيين متروكون للقدر الظالم وللعمر في أرذَلِهِ، وللصراخ بلا جدوى!