بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 آذار 2024 12:18ص «أحلام يومية» لرقة: تفتح الوجدان

حجم الخط
أهم ما توسم به الأعمال الفنية، أنها تصدر عن الوجدان الصافي. ها هنا النبعة المترقرقة التي تخرج من أصلاب الصخر، من الترائب. تتحرر مما يشينها من علائق عكرة تتصل بها: أوحال وأتربة وكلس وبقايا ثوران بركاني، ونفايات في الوديان لبني آوى، للإنسان. ثم إذ هي تجري في جداول رقراقة، وتجري معها الخضرة: الورقة الخضراء تتهادى مزهوة، وكذا الورقة الصفراء، وأختها التي يبست على الأغصان قبل موعدها. ترى الأنساغ تحتف بها. والشفاه العطشى، كما الأيدي، تطلع إلى رشفة منها، قبل أن تصبّ كل خيرها، في الجنائن، في الحقول التي تلامس حدودها الآفاق.
أسعدت هذا الصباح، بمطر بيروت، مطر شارع الحمرا، على رصيف المقهى، وكذلك بالعمل المسرحي الإبداعي، للأستاذ يوسف رقة: «أحلام يومية. دار غوايات. لبنان». فما أجمل أن يسرح المرء نفسه وراء حلم، يشرد بعيدا بعيدا، ثم يعود ليحاكي حاله، ليناجي نفسه، حتى ليكاد يصبح نجي نفسه، ذات صباح عكر تحت المطر، لما يجري في البلاد، بلاده، وقد أغلق على الناس، فما عادوا يفهمون مما يجري، وراء الأبواب المغلقة، وراء الحدود المفتوحة، والساحات المفتوحة، والشوارع المفتوحة، والعائلات والأسر، وكأنها أسرى كل الإحتمالات.
حشد الأديب والشاعر والمسرحي، الأستاذ يوسف رقة، في عمله هذا، كل ما يمكن أن يصاب به الوجدان، حين ينظر صاحبه بعينه، ويعدد على أصابع يديه، الأحزان اليومية الساخنة، التي تمنع الإنسان، من أن يبلع ريقه، من أن يتابع يومه كسائر الناس، كما في البلدان الهادئة عادة، بصفاء روحي. في الهاهنا، ينظر حوله، فلا يجد غير الحرائق، وغير آثار الحرائق، لا يجد إلّا الموت وظلاله، لا يجد إلّا الحزن وظلاله، لا يجد إلّا اليوم الأسخم، يحمل عليه بكل قسوة وعنف، مرارة التعايش القاتل مع السخائم.
وطن يوسف رقة، المحروق من جميع أطرافه، هو ما يجعل الدنيا كلها، سوداء في عينيه. يبتدر قلمه، يستله، وأرق يومه في عينيه. ينسل ورقة مهملة من دفاتر مهملة، يسجل عليها كشوفات الناس، إنكشافاتهم، حاجاتهم اليومية، المصائب التي وقعت على رأسهم، وكيف تقطّعت السبل بهم. يرى إليهم، وهم في العراء: لا رغيف ولا كساء، والبرد ينهش أطفالهم، يقتل مرضاهم، يحمل إليهم الأنواء والعواصف. ثم إذا هو تشتدّ عليه حالاته، يومياته، حتى ليرى كيف تتساقط السقوف على الرؤوس وتتبدد الأحلام.
هذا هو حال يوسف رقة، حين يستل قلمه، ينسل حبره من دمه، من دمعه، من سلال أوجاعه اليومية، على ظهره، يغمسه في قلبه ويستريح، لعله يشبع، بما يغيظه من الدماء. يلوّن عينيه على مهل بالحبر الأحمر، وينظر في الأفق المشتعل، كيف ينشق في الوطن الواحد، البيت بيتين، كيف يعلو الصراخ، كيف يلعلع الرصاص، كيف تمطر السماء السخام، كيف تختنق السماء والسقوف والحياض والأرواض بالدخان.
لعلها أسئلة مشروعة، تتفتق عن وجدان يوسف رقة، هذه الأسئلة، المسجاة والمتقلبة والنابضة والمحترقة، في مسرحيته: «أحلام يومية»، وهو في برهة الموت والكبرياء:
«أحلامي أقدمها للقارئ... أما أنا، فأحمل قلقي وحيدا.. أقرأ النص قبل النوم... أضحك قليلا... ثم أغفو.. تصبحون على أمل».
كتب الأديب المسرحي عبيدو باشا، عن شخصيات مسرحية «أحلام يومية»، للأديب المسرحي يوسف رقة، يقول:
«تشخيصاته القاسية، لا تقوم إلّا على الأسس المتينة، لقراءة الفراغ. يتتبع الآثار على وحول الأرض، ذات المصوغات الجديدة الباعثة على اليأس... يوسف رقة، يؤسس تواجده على الهدوء والصمت... كتاباته بالبساطة عنصر من عناصر التجديد. كتابته بالمنهج، بالملمح... بأظافر مكسورة... ينام بعباءة الكتابة... نوع من التغريب، على كومة من كلس المسرح... تبان لطخات الدم، بالمشاهد المتقشفة... حضور خام... حضور جثث فارغة الصبر... آخر نصوص يوسف، كأول كتابته... يده دافئة من كثرة البحث عن عوائق الريبة... ذلك أن الريبة، جذر الأزمة، جذر الحل، عند يوسف رقة...».
الأديب والشاعر والمسرحي والإعلامي، يوسف رقة:
«كاتب مسرحي من بلدة الشهابية. بدأ حياته المسرحية مع المخرج جلال خوري. أسس فرقة للمسرح في بلدة شحور. أخرج مسرحية برلمان -1976، والخريت. ولعب دور كمال جنبلاط في «نزهة ريفية»، للمخرج يعقوب الشدراوي - 1984.
كتب وأخرج مسرحية «الشاطر»، وكذلك مسرحية «33 صلاة في جوف الحوت»، ونالت جائزة في مونتريال - 2007، وترجمت إلى الفرنسية والإنكليزية، وقدّمت في كندا في مهرجان: Festival Trans Ameriques.
- حائز على إجازة في الحقوق من كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية وعلى دبلوم مسرحي من معهد الفنون الجميلة - الجامعة اللبنانية (1981 - 1980).
- له مقالات ودراسات عديدة في الصحف والمجلات اللبنانية والعربية.
وإحتلت مسرحية «أحلام يومية» للمؤلف يوسف رقة، مرتبة من أفضل عشرين مسرحية مرشحة للفوز، من قبل اللجنة التحكيمية، للهيئة العربية للمسرح.
يقول في ختام المشهد العاشر والأخير من مسرحيته الأثيرة: «أحلام يومية»:
«نريد لأحلامنا الجميلة أن تعود... هل تسمعون... هل تسمعون... هل...».
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية