بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 أيار 2023 12:08ص أدونيس في زياراته الخليجية: آراء جديدة.. وجديدة قديمة

حجم الخط
... وبعد زيارة المملكة العربية السعودية، ها هو الشاعر أدونيس مُحتفى به في بعض بلاد الخليج العربي الأُخرى، والتفسير الأسلم والموضوعي لهذا، أن بعض تلك الدوَل التي تتحرك في اتجاه التحديث في كل شيء داخل مجتمعاتها، إنّما تريد إكمال هذا الاتجاه عبر الثقافة الحديثة، فتدعو أدونيس إلى ندوات وأمسيات، ذاك أنه أحد آباء تجربة الحداثة الشعرية والفكرية في العالم العربي.
هذا الإحتفاء المشكور ،لا بدّ من أن يلقى ترحيباً متميزاً عند أدونيس، وعند أغلب شعراء الحداثة الشعرية، كونه يفتح صفحات جديدة في العلاقة بين السّلطات العربية والفنون عامةً، والشّعر خاصة، ويعيد رسْم صورةٍ أو واقعٍ جديد أكثر حيوية للمثقفين والشعراء والكتّاب والأدباء في بلاد العرب.
وبما أن أدونيس، اليوم، هو الرمز الباقي من روّاد التحديث، في الشّعر العربي المعاصر، فإن زياراته العربية، تحفل بالكثير من المقابلات يعلن فيها الكثير من الآراء التي تشكّلت عنده من خلال التجربة الطويلة له بين الشرق والغرب.
غير أن رأياً «قديماً» له (لم يناقَش جدّياً) ما زال ماثلاً في حواراته الحالية، ويردّده اليوم وباستمرار كقناعة ثابتة هو أن مجرّد اكتساب الشاعر جماهيرية واسعة، هو أمرٌ سيّئ ودليلٌ على مستوى رديء من الشّعر أحَبّه هذا الجمهور. ويعطي برهاناً على كلامه شِعر نزار قباني وشِعر محمود درويش، معتبراً أن ما يحبه الجمهور العريض من شعرهما، هو الأقل قيمة شِعرية من غيره من أشعارهما، موقناً أن «الجماهيرية» لا يمكن أن تكون مقياساً في تقييم الشاعر وشِعره وتجربته!
يجب التمييز والبحث أعمق في أسباب انتشار شاعر دون آخر أو أكثر من آخر، تقف في أول أسباب جماهيريته، هي لغتُه الشعرية وخَياله والمعاني الجديدة والجميلة وذكاؤه الفني. ضمن ذلك مثّل نزار قباني نصيراً فدائياً للمرأة وقضاياها - وهذه قضية جماهيرية عربية كبرى (١٩٥٠-١٩٨٠) - في زمن المرأة الممنوعة من تحريك يدٍ عن يد في الشخصي والعام، وحين تحدّث عن ثورة الجسد الأنثوي كان أغلب الكتّاب والشعراء الآخرين متهيّبين، وجمهوره من النساء والشباب اتسع كثيراً جداً. وهل نسينا انتحار شقيقته بسبب رفض أهلها الزواج ممن تحب وفعلَت هذه القضية في نفسه براكين تمرّد على الواقع؟ فضلاً عن أن همّه التحرري كان مقروناً بأدبيات جديدة عميقة وسهلة باتت مسجلة باسمه. ومحمود درويش كان إبن القضية الفلسطينية الأبرز كشاعرٍ - وهذه قضية جماهيرية عربية كبرى (١٩٥٠-١٩٩٠) - ودافع عنها درويش بكل قوّته التعبيرية المباشِرة والكامنة وبلاغته وسحرِ إلقائه القصائد التي تطوّرت معه فنياً بروح تجديدية. فكيف لا يكون لقباني ودرويش هذا الإتساع الجماهيري الذي ينبغي احترامه خصوصاً وإنهما لم يرزحا تحت النموذج التقليدي في الشّعر بل شاركا في النهضة الشعرية العربية بجدارة، فحَلّا فيها في المقدمة.
طبعاً هذا موضوع قديم - جديد، يدقّ على باب مهم جدّاً: من هو قارئ الشعر في العالم العربي؟ وهل الإعجاب بشاعر بعينه هو مفسَدة للمُعجَب أو للمُعجَب به أم هو محبة نابعة من حريّة ذاتية عند القارئ لا يجوز الإنتقاص منها؟ وهل إذا أُعجبَ الشخص نفسه بنزار قباني وأدونيس معاً يكون (جيّداً) مثقفاً لإعجابه بالثاني، وغير مثقف لإعجابه بالأوّل؟
ثمّ سؤالٌ يتدحرجُ من رأي أدونيس عن أن جماهيرية شاعر ليست دليل أهميّته، ولكنْ بالعكس، هو: هل عدم جماهيرية شاعر يُعَد مقياساً لعِظَم شأنه وقوة تجربته ونصاعة شِعره؟
ونكمل الأسئلة المتعلقة عضوياً بالسؤال السابق:
هل هناك جمهور واحد للشّعر في العالم العربي، وفي الشرق والغرب معاً أم هناك جماهير تختلف في درجة تذوّقها وفهمها وتصنيفها؟
سؤال آخر:
هل هناك شِعرٌ واحد في العالم، أم هناك أنواع كثيرة من الشّعر، وتالياً سيجد كل نوع محبينَ ومعجبينَ من الجمهور؟
وطالما أن هناك أكثر من جمهور، فالمعنى أن هناك تلاوين بشرية ثقافية بين متعلّمين ودارسين وأقل تعلّماً ودراسة، وهناك فئات عريضة تتصرّف تجاه الشعر بأسلوب مزاجي خاص يُعجَب أو لا يُعجَب حسب مستوى قراءاته، وتصنيفِه للشّعر وهَواهُ، والهوى مسألة دقيقة وحسّاسة في الحكم على الشّعر بالمنظار الفردي.
فالشّعر، كفن قائم بذاته لم يكن يوماً مؤطّراً في شخص واحد بذاته، وفي نوع واحد، بل كان ولا يزال مساحة إبداعية يملأها شُعراء في كل زمان ومكان فيختارون لُغاتهم وصُوَرهم وعوالِمهم كخيار خاص، في شكل لا يلتقي ربما مع غيرهم، أو ربما يلتقي في أشياء ويختلف في أشياء، وإلّا فكيف نستطيع تمييز شاعر عن آخر، وشِعر عن آخر؟
إن هذا التمييز معقود اللواء للقارئ نفسه، متطلباً كان أم لا، وللشاعر نفسه في ما اختار درباً وأسلوباً شعرياً. وليست المسألة كانتساب إلى حزب يفرض الطاعة، ويحدّد لجمهوره ما يريد ولا يريد، وتالياً فعلى الجمهور أن يلتزم. فجمهور الشّعر متنوّع ومتباين ومزاجي وسُويعاتي يتبع ما يقول قلبه حيناً وعقله حيناً وأفكاره الغامضة حيناً آخر ولا يضع نفسه في خانة شاعر إلى الأبد بل يتنقل بين الشّعراء كالغزال. ومن يحب هذا الشاعر ليس بالضرورة كارهاً لذاك، أو يرفضهُ أو يضع علامات استفهام حوله. وكل شاعر يحبّه القارئ يأخذه كما هو، وكما هو نوع شِعره وكما هي أفكاره لا كما قد يوحَى إليه أن يحِب من الآخرين.
أوَليس في التاريخ العربي شُعراء وكتّاب كانوا مشاهير في زمانهم ولهم جمهور كبير. ولماذا سمّي المتنبّي تلك التسمية الجامعة «مالئ الدنيا وشاغل الناس»؟ أليس لأنه كان حديثَ الخاصة والعامة. جبران خليل جبران كان جمهوره في مرحلة بداياته، واسعاً، واتسع أكثر والآن كتبه تباع بالملايين في العالم، فهل سهلٌ علينا القول إن مستوى جمهوره متدنّ لأنه يعجَب بالمستوى المتدنّي لبعض نتاج جبران؟!
إن وصف الجمهور بالتدني في المستوى، بمجرّد أن لنا رأياً مختلفاً عن آرائه في شاعرٍ ما أو كاتب، هو احتقار لقيمة الفرد، وتدخّل ممجوج في ميوله ورغباته وتصوراته عن الشعر والأدب، ذلك أن الشعراء والكتّاب الذين لا جمهور لهم بالمرّة أو لا جمهور كبيراً لهم، هل هم فعلاً، نَكِرة أم لديهم ما يرونه أو يراه بعضهم ثميناً لكنّ لعدم وجود معجَبين بهم أسباباً أخرى غير تدني مستوى الجمهور وغير تدني أو ارتفاع مستوى كتاباتهم!
فلو كانت لأدونيس جماهيريةُ نزار قباني ومحمود درويش، هل كان ليصَفها بأنها جماهير رديئة في اختياراتها الشّعرية أو تفضّل أسوأ شِعره؟ طبعاً لا. أن أدونيس في هذا الكلام يعاني من دون أن يعترف بأنّ ثمة جفاء بينه وبين جمهور يعتقد هو أنه كان ينبغي أن يختاره لما لديه من مؤهلات وشروط شِعرية عالية، لكن مسألة الإعجاب بشاعر دون آخر غير خاضعة لتقييم الشاعر لنفسه وإلا لكان أصغر شويعر حكَمَ على نفسه بالرقيّ الشّعري، واتخذ من بُعد الناس عنه دليلاً، فكيف الحال وأدونيس أحد «أباطرة» الحداثة الشعرية العربية؟
أدونيس الشاعر الكبير والمؤثر في الحياة الثقافية العربية والعالمية يدرك أن إحياءه أمسية شعرية بحضور عشرات الأشخاص يختلف تماماً عن حضور المئات، لا للتصفيق المنعش، بل للتجاوب مع الأفكار والبناء الشّعري واللغة البرقيّة عنده. وسوف يكون سعيداً لو أن القاعات التي احتضنته في السعودية وبعض بلاد الخليج كانت ملآنَةً بجمهور يحب شِعره ويناقشُه فيه، مهما زعمَ أنه لا يحصي عدد الآتين إليه.
ليس فقط في الشعر العربي الحديث هذا الجدال عن الجمهور. في فن الغناء مثلاً، يحب جمهور شاسع فيروز وكان يحضر حفلاتها الآلاف، فهل لأنهم بالآلاف يُحكَم عليهم بأنهم يأتون من أجل أسوأ أغنيات فيروز الشهيرة؟
جمهور المغنين يختلف عن جمهور الشاعر؟ مؤكد لكن ليس في المطلق. ولا يحق لنا أن نقرّر عن الناس أنهم غير مُدركين ما يجب أن يحبوه في فنانيهم أولئك؟ ولن نصدّق مغنياً آخر مثَلاً، قد يمتلك قدرات غنائية استثنائية لكن الجمهور بعيد عنه، إذا قال عن حفلاتٍ لكبارٍ غيره أن الجمهور ليس مقياساً لمستوى الغناء!
وتضاف إلى الموضوع حقيقة ثابتة، هي أن الجمهور أعمار. كل عمر له خبرته وطريقة تفكيره وتحليلهُ للنصوص وقربُه أو بُعدهُ عن الفنون. فالشباب، كما هو معروف، يشكّلون عصب الجمهور، في تأييد شاعرٍ أو فنان في اطروحاته، وهم كذلك في الأحزاب، عصبٌ حيّ ومتوتّر وخلّاق. بينما في الثلاثين والأربعين من العمر تتغيّر أساليب التلقّي ورد الفعل على ما يُطرَح من فنون وأساليب فنية، وتتسع النظرة إلى الأشياء، وتهدأ إلى حدود عالية «الثورة الكونية»، لتبدأ الحركة الفردية مكانها. أمّا في ما فوق من الأعمار فيحلّ المنطق والعقل والإختمار عموماً لأخذ الدور كاملاً في الخِيارات، مع الأخذ في الحسبان التجارب العلمية والمهنية والشخصية والحياتية، فضلاً عن الصدمات والأزمات التي تنعكس على طبيعة الحياة ومتطلباتها وقدراتها لكل هذه الفئات العمرية، فهل هذه المراحل الثلاث من أعمار الجمهور، قابلة لأن تكون في سلّة واحدة، لنقول أن الجمهور (هكذا «دُكمة») هو كذا وكيت.
وحين تكون جماهيرية الشاعرين قباني ودرويش من جميع الأعمار تقريباً، فما هو تصنيف أدونيس الواقعي العلْمي عند ذلك للظاهرة؟
 الجماهير ليست مقياساً (وحيداً، فهناك مقاييس أخرى دَقيقة ومهمّة) لمستوى الفنون؟ هذا صحيح، لكن ليس في كل الحالات، خصوصاً مع ذوي التجارب المتلألئة.
في الشّعر نحن أمام المعادلة ذاتها. ليس كل شاعر جماهيري، يُعتبَر مغشوشاً لأننا حكَمنا خطأ بأن جمهوره أحب قصائد معينة «شعبية» عنده ولم يحبّ قصائد أخرى!
تبقى أنواع الشّعر، فهناك النوع المباشَر الذي لا يستدعيك لفكّ الرموز بل يقول الأشياء ببساطة، وهذا النوع له معجَبون قد يكونون من أكثر الناس ثقافة وعلْماً!
وهناك نوع أصعب، منه «النوع الحديث» الذي ينقسم إلى ألوان من النثر إلى التفعيلة إلى الموزون المقفّى الجديد، وكل شاعر لهُ طريقته في التعبير الواضح أو الغامض أو البينَ بين، والجمهور يختار ما يقترب إلى وجدانه أو يتحدّث عن همومه أو يلامسُ خياله، ولسنا نعرف أساساً من هو ذلك الجمهور وماذا سيحب وعلى ماذا سيعترض!
وماذا إذا أدّت زيارات أدونيس الأخيرة إلى انتشاره إسماً وكتُباً، و«تفاقمَ» مبيع كتبه النقدية ومجموعاته الشعرية، وتضاعف عدد أمسياته أضعافاً (ونحن نتمنى).. أيكون ذلك دليلاً على أن هذه الشهرة قامت على سوء فهم شعبي؟