بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 حزيران 2023 12:00ص أدونيس ما علاقةُ شِعره بالوَسْواسِ القَهري؟

حجم الخط
أبدأُ مما يسمّيه الرّحالة متعةَ الطريق. هناك متعة لدى الرحّالة في السير الحثيث إلى المكان الذي يقصدونه إمّا للمرة الأولى فيتعرّفون إليه، أو لأكثر من مرّة نظَراً لما فيه من الجماليات الفنية أو الإجتماعية أو العلمية، وهو لا يقلّ قيمة عن متعة الوصول. متعة الطريق تجعل الطريق أجمل، وأهيَن، وتُنزل المشقّات عن كاهل الرحّالة وتعوّضُهم عن رتابة السفر أو الشعور بالغربة، ليكون الوصولُ مُمَهَّداً لهُ بدهشة الطريق.
متعة الطريق هذه غير واردة في شِعر أدونيس منذ ربع قرن، لا بل تمتلئ الطريق بالتعرّجات والفواصل فكأنما القارئ أمام أسلوب حلزوني في سبك الجُمل والاستدراكات والإضافات والحواشي والشروح، ويستحيل على السّابرِ غَوْر أي قصيدة لهُ في السنوات الأخيرة الطويلة من عمره المُدجّج بالإنتاج أن يهنأ في قراءةٍ غير معقّدة، أو بتحليل قصيدة أو بمعرفةِ فحوى الدواوين باستثناء تكوين «انطباع» عام عن القصائد بأنها معاناةٌ في الإضطهاد والرفض عبر «أدلّةٍ» يتخيّلها القارئ ويبنيها على ما استطاع أو ما توهّمَ فكَّه من الرموز والإشارات ومعطيات هذه الفقرة أو تلك، ويرسم من خلالها شخصية أدونيس، شاعراً صعبَ التركيب اللفظي، وعباراتُه مشحونةٌ بغموض ينتقل من وعي الشاعر وكيفية نظرته إلى الحياة.. إلى من يرغب ولا يرغب!
ويستوي دارسو أدونيس مع القرّاء الآخرين الذين يأتونه للاستطلاع أو التعرّف أكثر، ذلك أنّ أغلب المطّلعين عميقاً والمطّلعين عفواً على شِعر أدونيس يدركون أن متعة الطريق في القصيدة مفقودة، وأن عليهم استبدالها بهموم الطريق ومسالكه الوعرة، ويجدر بهم توقّع العودة بخيبة كأمر وارد في كل لحظة من القصيدة، أيِّ قصيدة، وأن مَن يستطيع التحمّل حتى إنهاء الديوان أو القصائد الطويلة يستحق جائزة.. في الصبر!
كأنما أدونيس واقف على مستويين: سماوي وأرضي، السماوي لا يُفضي إلى معرفة كوامن باتت دهرية، ناهيك عن أن طَرْق هذه الأبواب، لا يتجرّأ عليه أدونيس بذهنية الباحث العلْمي، كما تطلُب ذاتُه، من دون أن يتّقي محاذير مَنْ يعتقدون أنهم حرّاس الله الذين «ينتظرونه» (أدونيس) كما انتظروا غيره للإنقضاض، ويبدو أنه يُداري لحفظ الرأس، ليس في شِعرِه بل أيضاً في نثره وفكره.. أما علاقته بالأرض فتؤدي إلى أجوبة عن الواقع والتراث، إنّما لا يبقى منها في ذاكرة قارئها سوى ملامح تمرّد يمرّ على شكل «عصف جميل» يُنتظَر منه «خراب جميل» لا يأتي! ويستمر الكلام على العصف الجميل في صياغات متعدّدة، أحياناً بصيغة الفرد الذي هو، أدونيس، وأحيانا بصيغة الجمع التي هي القوم أو الجمهور أو الناس. وانتظار «الخراب الجميل» تراءى لبعضنا أنه في «الربيع العربي» فكان على مستويات السياسة والمجتمع (لا الثقافة) عصفاً حقيقياً لكنْ تخريبياً، والخراب لم يأتِ «جميلاً»!
كل شِعر أدونيس كان مُخاطبَةً بينه وبين العالم. وبقيَ أدونيس لا يفهم على العالم، وبقيَ العالم لا يفهم على أدونيس، وبقيت القصائد معلّقة في منطقة الإستعصاء وعدم الفهم، وبقيت المعاناة كأنما بلا نهاية، تتجدّد مع كل كتابة له، نثرية فكرية أو شِعرية.
يقول في واحدة من مقابلاته خلال «الربيع العربي»: «لستُ مع التظاهرات التي تخرج من الجوامع، أنا مع التظاهرات التي تخرج من الجامعات»، وهذا تبرير ذكي عن موقفه المناهض للإسلام السياسي، لكن أظنّه لم ينسَ بعد امتداحه الثورة الإيرانية التي خرجت من الجوامع أساساً ثمّ من الجامعات، في قصيدة (متينة و«مفهومة») لم يُدرِجها في أي ديوان. ولهُ رأي سيّئ جداً في الجامعيين قالهُ في رسالة وجّهها الى الشاعر يوسف الخال من باريس أول الستينيات (نشَرها في كتابه النقدي «زمن الشّعر») عندما علمَ بأن الخال يفكّر في إيقاف مجلّة «شِعر» فيقول له إذا كنتَ في قرار إقفالها قد تأثّرت «بجماعة المسرح وطلّاب الجامعات» فهؤلاء «همّهم في بطونهم». وهذا كله قديم لكنّه يدلّ على الحيرة التي تسكن أدونيس في المكان الذي ينبغي أن ينطلق منه «العصف الجميل» الشّعري والسياسي ليكون خرابه جميلاً يُبنى عليه واقع عصري مدنيّ إنساني للمواطن العربي الذي ضاع بين الأرض حيث الدين يتلاعب به أهل الفقه، والسماء التي لا تصيخُ السّمع إلى أحد.
إنما أوَليست للتعبير عن الثورة والتمرّد وهدم التقليد إلّا لغَة واحدة مبهمة ومتشابكة تتسع ثم تضيق ثم تتسع وتضيق وتواظب على الأفكار نفسها ولكنْ بتوريات مختلفة (قصيدة «إسماعيل» كتب على ناصيتها أن الأسماء الواردة فيها لا علاقة لها بالأسماء «التاريخية»؟!) وتتحرك في إطار متكرر المعالم في شِعر أدونيس، بمعنى أن القضية (الثورة) التي تؤخذ من جهة، يعود فيأخذها من جهة أخرى ثم من جهة ثالثة وهكذا إلى أن تتحلل (الثورة) بين يديه من الوصف والتحليل والتفكير في تظهيرها، و«اللعب» على تظهيرها جديدة، و«أنا» الشاعر هنا متفنّنة باللغة لا فاعلة في الحركة خارجها، وتدّعي ما ليس فيها من القوّة إلّا في النطاق الشخصي، وهذا النطاق لا يُبدع حَيّزاً مركزياً في الثورات التي تصنعها الجماعات.
أدونيس يهجو الجماعة لأنها قطيع، ومع الفرد لأنه حالم وقادر.. على نفسه في أضعف الإيمان. لذلك يأتي شِعرُه فردياً في مبناه وفي معناه.. فكيف إذا أُضيفَت إليه حالة الغموض المُسيطِر؟
في علم النفس هناك حالة مرَضية خبيثة هي الوسواس القهري. وتعني أن فكرةً قاهرةً أو مجموعة أفكار قاهرة تنتاب الإنسان من دون أي مسوّغ منطقي، أو أسباب فعلية حاصلة، فتُهَيمن هذه الأفكار على الإنسان في عمله وفي بيته وفي علاقاته مع الآخرين، ويستسلم لها، وكلّما عالجها من باب دخلَت من باب آخر. فكرة الموت مثلاً تصبح وسواساً قهرياً حين يَتوقع المُصابُ أنه سيموت بمجرد أن فلاناً قريباً (أو بعيداً) مات، من دون أن يكون أي وجه شبه بينه وبين الميّت، ويسكنه هلعٌ كلما فكر في الموت. أحياناً المريض بمرض عضال يمكن أن يتحول المرض عنده وسواساً قهريّاً إذا استسلمَ له فيهلعُ من كل خبر يَسمعه في هذا الموضوع. في شِعر أدونيس وسواسٌ قهري يتجسّد في الأنا (المتناقضة حسب تعبيره) والراقصة بين صفيحٍ شِعري ساخن، وثلّاجةٍ «تحفظ» الأفكار ثم تعيد إنتاجها دوريّاً كلّما حضَر موضوع العرَب تراثاً وشعوباً ووجوداً فعلياً في العالم، وهي أنا لا مثيل لها، ويتجسّد أيضا في معطيات أخرى منها العالَم الذي يضغط عليه من طرُق كثيرة، وحالتا الإضطهاد والرفض، ومحاولات القبض على الحرية، وحالة اليأس من الثورة وتحقيق الأفضل للإنسان العربي، وهنا تأخذ «مُعالَجات» أدونيس شكل الهلع في القصائد عبر تكرار دوافع الألم العظيم وتداعياته وكيفية مواجهته بالوصفة الجاهزة المألوفة في نتاجه مُغلّفة كل مرّة بقالب اللغةِ حمّالةِ الأوجه. شِعر أدونيس ينبع من هنا، ويشكّل حلقات تحاول أن تخترق فلا يحصل الإختراق وأن تزرع فلا يكتمل الزرع، وأن تحرّض فلا يصل من التحريض شيء. ولا يتضح التحريض ولو في حدود نسبية حتى يؤثر في الآخرين. التحريض الأدونيسي يبدأ عنده وينتهي عنده. ويكتفي بذلك، بناء على إصراره بأن القارئ مدعوّ إلى التفكير والتدقيق وأحياناً التنجيم في الكلمات والمعاني ليستوعب المطلوب. وأغلب الظن أن أدونيس نفسه يكتب الفكرة الغامضة لاقتناعه بأن الغموض جزء من اللعبة الشعرية، فتنطلق غامضة منه، وتمرُّ في القارئ غامضة، وتُسجَّل في تاريخه غامضة. إنه الوسواس القهري يُعَبِّر عنه أدونيس بالشّعر «الفِكراني» الذي يحتاج نثراً مصاحباً يدلّ عليه و«يترجمُه»، أكثر مما يحتاج قارئ شِعر ولو متمرّساً ومحترفاً. نعرف أن أدونيس سيستخدم هنا ردّ أبي تمام الذي سُئل مرّة «لماذا لا تكتبُ ما نفهم؟» فأجاب «لماذا لا تفهمون ما أكتب»، وإذا كانت هذه الحادثة وقعت لأبي تمام مع شخص أو أكثر غير متطلّبين في الشّعر، فإن من يحاولون فهم ما يَكتب أدونيس اليوم بلغوا الزبى في كتابة الشّعر ونقد الشّعر وتصنيف الشّعر.. لكن أكثرهم يحاذر التطرق الى الموضوع وإثارتَه إنطلاقاً من موقع أدونيس كشاعر عربي كبير جداً، وكشخصية من الثقافة العربية دقّت أبواب الغرب بمواهبها، إلّا أن الموقع والأهمية بل العظمة إذا كانت، لا ينبغي أن تمنع من طرح الإشكاليات المتعلّقة بنصوص هذا الشخص وأسلوبه فـ«الأسلوب هو الإنسان» على تحديد أهل العلْم الأدبي.
يخرج أدونيس من قصيدة «تعالج» فكرة سلبية، إلى فكرة أخرى من العيار عينه، ويخرج من ديوان تصبغُه إحداثيّات الإنسداد المسلَّم به في الموضوعات الآنفة الذكر وطريقة التعامل معها، إلى ديوان أخر تصبغه الإحداثيّات ذاتها لكنْ بتراكيب جُمل ومفردات وأنساق أسلوبية تحاول التمويه على ما كان قد قاله في «قضايا» مماثلة.
وإذا كان أدونيس لا يصِفُ مشاعرَ ولا يعطي وقتاً للعواطف في نصوصه، فإنه في الوقت نفسه يُعمِلُ العقل في تركيب عِباراته في شكلٍ قد يَنزعُ الشعرية عنها لِشدّة ما فَكَّر بها وخطَّطَ لها ومهَّد أمامها وخلفها وفوقها وتحتها، لنكون أمام هندسات متعَبة من الطبيعي أن تُتعب القارئ؟
ماذا يعني أنه كلما قرأنا أربعة أسطر من قصيدة لأدونيس، ينبغي أن نتوقف عن القراءة لنجد تفسيراً لمَا قرأنا، ونُخَمّن مقاصدَه كأحاجٍ مُبرَمة، ونستقصي معانيه الكامن فيها هلَعٌ مزدوج، الأول المجيءُ بما يختلف في الطرح، والثاني سَترُ المفضوح مما نُشرَ مِن قبل. كل أسطرٍ عدة أنت في حاجة إلى هذه العملية الإدراكية لتحيط، من بعيد غالباً بالهدف الأدونيسي، وتُكمل القصيدة فلا يبقى منها سوى أصداء مُتخبّطة. ومتعة الطريق المُلغاة من حساباته، تصطدم بالوصول إلى المجهول.
أنا أفهم التوقف عن القراءة خلال قراءة لُغة أخرى غير العربية، لتوضيح المعاني وما إليها.. أو عند قراءة شِعر جاهلي أو قديم لتعرف معاني الكلمات أو خلفيات بيت معيّن فيه مفردات غريبة لم تعد مستخدمة اليوم، أمّا أن يكون الشعر باللغة العربية المهذّبة المنقّاة الغنية في مرادفاتها، وتحتاجُ جهداً مضنياً لتحصرَ مرادَها فقط لأن الشاعر لا يريد أن يعلِن صراحةً ما يريد، ولأنه استساغ هذا المناخ المُغلق في شِعره، فتلك هي المشكلة.
الغموض المقصود المتعمّد هو مشكلة أدونيس. الغموض المنطلق من أن الفكرة الشعرية إذا كانت متوارية أفضل في تأثيرها، وأن الأسلوب إذا كان مُحَجّباً يعطي انطباعاً بالأهمية. من هنا فإن تقريعه لجمهور الشعر سنجد مبرراته هنا، والجمهور غالباً لا يغلّب الغموض على الوضوح النسبي، الوضوح الشفاف، والمُحيِّر، لأنه ليس سُبّةً، فهناك فنانون كبار جداً في العالم قديماً وحديثاً كان الوضوح أحد أدواتهم الفنية، فإذا قصدوا الغموض فلِكَي يحرّكوا خَيَال القارئ أكثر.. أما غموض أدونيس ومن مطلع القصيدة فهو لقطع الطريق فوراً على أي علاقة محتملة مع قارئ قد يبزّ أدونيس في معرفته وثقافته وقراءته الشعر والنثر، فهل هناك مبارزة؟ أو استعراض؟ إنّ بناء الثقة مع أي شاعر يبدأ من فهم نفسه ومنْع ترويضها، واعتبار ذاته مركز السلُطات على المساحة البيضاء يملأها بالمُغاير الذكي والجميل، ويمرّ بالتمرُّن على قبول أنواع من المُتلقّين، وبالأسلوب الحيوي النابض في التعبير عن «الأزمة» الذاتية مهما كانت عميقة، وصولاً إلى اجتراح المكانة اللائقة المنبثقة عن ثقافة وخبرة وعناق دائم مع اللغة. أمّا إدارة الظّهر لمن يُفتَرض أن يكون الطرف الثاني في الشّعر وفي كل الفنون، فسيجعل الأمر برمّته حواراً أحادياً أي حوار طرشان!
وإذا كانت «التجربة الذاتية» هي مصنع الشّعر في «القصيدة الجديدة» على حد قول أدونيس، أليسَ في تجربته الذاتية قضية مفهومة الأصل والفصل يأتي بها إلى شِعره؟ ألم تمرّ امرأة طبيعية في حياته تقرأ الشّعر كما نقرأه وتفهمه كما نفهمه؟ ألَا تفعل الطبيعةُ فيه ما تفعل بنا فندوّن تجربتنا معها ببساطة الطبيعة ذاتها وبالعمق الفاتن الذي تتمتع به؟ وهل كل شيء غامضٌ في عينيه مع أنه مطروح كأكثر الشعراء قدرة على الرؤية والرؤيا؟
يَسأل نزار قباني في واحدة من قصائده في نقد العرب «ألَيسَ في كتب التاريخ أفراحُ؟».. ونَسأل أدونيس أليسَ في كتب التاريخ العربي التي فلّيتها شيئاً غير القتل والتآمر.. وكل الشعوب في العالَمِ شرقاً وغرباً كانت متشابهةً سُوءاً، فهل كان ينبغي ألّا يكتبَ شاعرٌ عن خيرٍ ما، عن مأثرةٍ أو مفخرةٍ ما في شعبه، ليَنذُر نفسه وشِعرَهُ لتعداد المباذل التي لا يستطيع خلاصاً منها هوَ شخصيّاً فيستفيق ويسهر وينام عليها ويراها في نومه، وحين يكتب شِعراً لا يكتبها بل يُحيلها إلى النثر ويصيح من أعماق لُجَجِها تعبيراً عن نفَس مقطوع يَغرَق صاحبُه فتُدركُ معاناته حَرْفياً، فإذا حَضرَتْ فرصةٌ للكلام الشّعري لا يدَعُك تعي ما يقول؟
فهل خشيَ أدونيس «شيئاً»؟
لنبتعد قليلاً: دانتي كتب «الكوميديا» التي أسموها «إلهية» بسبب موضوعها الذي هو «رحلة الإنسان إلى الرب».. وترَك عملاً شعرياً هائل المغازي المستمرة منذ سبعمائة عام مع أنه عاش في «زمن بربري» كما وصَفوا! هوميروس (يقال) كتب «الألياذة» التي تخلّد فرسان اليونان في حروب ماحقة عبْر قصة أسطورية تستعاد عالمياً في الدراسات والأبحاث كأثر شِعريّ كونيّ. «الشاهنامة» عند الفرس أرّخت عباقرةَ القتال عند الفرس وغنّتهم من عهود أسطورية إلى ما قُبيل الفتح الإسلامي. فهل كان مستحيلاً على خَيَال أدونيس أن يبتكر هذا «المسرح» وهو لا يزال يحنّ إلى المسرح كعالَم متعدد الأصوات والخبرات والصدمات الإنسانية والوقائع الضخمة تَحمِلُها مشهدية مُعتَبَرة؟ (وأول قصيدة نَشرَها في العدد الأول من مجلة «شِعر» كانت مشهدية مسرحية شِعرية).
هل القضية الفلسطينية أقل كارثية وتراجيدية لتكون عملاً فنياً تقلّبت فيه الأدوار سبعين عاماً والدم هو الدم والظلم هو الظلم وقوى الظلام الكبرى تقود مسارها الجنائزي المتفاقم عميقاً والمدمِّر إنسانيّاً؟
وأنا كشاعر كان يعشق كتابات أدونيس الذي درَسنا كتبه النقدية في الجامعة، تعدَّل رأيي فيه بعدما أعدتُ قراءته منذ سبع سنوات تقريباً، بكل كتبه النقدية والشعرية، بدقة وتركيز و«استقلالية» في الرأي تكوّنَت من تجارب الحياة، في محاولةٍ مني لفهْم دوّامة الوسواس القهري «التقليدي» في شِعره..
أقول، أنا كنتُ أعتقد أنه سينصرف لتدوين «كتاب حياته»، أي إنجازه التاريخي الذي قد يُذكَر به في أزمنة لاحقة، من خلال «حياة» بلده سوريا خلال سنوات الحرب الطاحنة عليها (١٢ عاماً) والتي اجتمعت فيها الدول الصغرى والكبرى، العدوّة والصديقة، الغنية والفقيرة وجرَفت أهلها في طاحونة تشريد موتٍ جبار، باسم الدين والسياسة ومصالح قِوى عُظمى بهدف تغيير الخرائط، فلم تبقَ قوّةٌ في الكون إلّا وبلّت يديها وعنقها ومخالبها فيه، فإذ بي لا أعثر على شيء من ذلك، بل كل ما عثرتُ عليه تصاريح «ثقافية» تخدّرت فيها المعاني خوفاً من تداعيات «الخيار الحاسم» الذي ينبغي أن يكون. والخائف لا يصنع أدباً من بطولة تاريخية، وإنما يكتفي من على أريكته بالنقد والتنظير، مع أنه معْني مباشرةً عضويّاً وفكرياً وإنسانياً وعاطفياً واجتماعياً وشِعرياً بالصراع!
 أقول هذا وأزعم إن أدونيس كان يمكن أن يصنع تُحفَته الشعرية خلال ربع القرن هذا الذي دارت فيه الأيام، داخل شِعرهِ ببرودةٍ لم تُعطِ غير ما كان أعطاه قبل ربع قرن من ربع القرن الأخير... كأُضْحية شبه مجانية قدّمها أدونيس على مذبح «الشعر العربي الحديث» الذي نَعاه أخيراً!
يوسف الخال، في أواخر أيام مجلة «شِعر»، قال حسب أحد محاضر الجلسات التي نُشرَت في كتاب أخيراً «أخشى أن يكون كل ما نفعله قفزات في العتمة». وأنسي الحاج قال في أواخر أيامه «أتمنى لو أستطيع أن أمنع كل كتّاب قصيدة النثر، اليوم». تلك شهادات من كبار مجلة «شِعر» وأدونيس كان بينهم، فماذا يقول أدونيس عن الفكرة الوحيدة التي يُمضي الشاعر حياته في الضرب على جديدها، فتُجمّد الروح في عروق الدواوين، وهو يتوهم أن الآخرين لا يملكون عيوناً تقرأ جيّداً!
 إن أكثر آيات (نَعَم آيات بالمعنى الفني) آيات النقد التنظيري الشّعري التي كتبها أدونيس، سواء من رأس وبنات أفكاره أو من بنات أفكار الإقتباس، هي أعمق تأثيراً، وأوسَع احتراماً، وأرحب تقديراً لدى الجيل الشعري الوسيط في «الحداثة» والجديد أيضاً، من أغلب قصائده التي أتت أحياناً كتمارين بالذخيرة الحية على تلك النظريات. ومن العجَب المضني أن كلّ تجارب «التخطّي» و«التجاوز» الشّعري التي جعلت أدونيس أستاذنا، ومثلاً أعلى لدى كثُر منّا خلال حقبة ثلاثين عاماً (١٩٥٤-١٩٨٤) لم تقترن منه بخطوة واحدة تجاوزية باتجاه جمهوره الفعلي طمعاً في إقامة علاقة حوار ونقاش وهو جمهور نخبوي، فهل سيكون متنبّهاً «وعاطي بالُه!» لخطوات باتجاه الجمهور الأكبر الذي يَنظر إليه على أنه متعالٍ وفي برجٍ لُغويّ تخييلي ذهَبيّ؟
أما عن «أدونيادا» - الكتاب الأخير الذي أصدره أدونيس - فهو، بالاسم محاكاة لـ «الإلياذة»، وفي السردية والمضمون هو «إلهامٌ» أصلُه في «الكوميديا الإلهية». وإذا كان دانتي ذهبَ في رحلته من الأرض إلى السماء ملتقياً هناك مجموعة من عظماء تأثّر بهم وأحَبّهم، فإن أدونيس ذهب في رحلته من الشيخ الذي هو الآن نحو زمن طفولته (عودة الشيخ إلى صِباه) ملتقياً عظماء تأثّر بهم وأحبهم. ومن أسمائهم في حياة أدونيس تعرف مدى ارتباطه الثقافي بهم.
لكن هل تغيّرت اللغة في «الحوار» بينه وبينهم، من أدونيسية تقليدية إلى أدونيسية تناسب تلك الشخصيات أو تعبّر عن أفكارهِم هُم؟ سؤال يصحّ فيه مبدأ تجاهُل العارف، إذ يصعبُ على المُتابع قبُول أن آخرَ نتاج أدبي يَنتظرُ منه أدونيس «التاريخيةَ» لاسمه في المكتبة العربية.. هو اقتباس لفكرة وسياق «الكوميديا الإلهية» مع إضافة شخصيّات «عربية» تتضمّنها «الأدونيادا» لتعطي هويةً لكاتبها، ذلك أنّ هذا العَمَلَ ينفي تماماً ما قاله أدونيس في قصيدة سابقة «وجهُكَ يا غربُ مات» ليؤكد أنّ «وجهكَ يا غربُ» عاشَ أقلّه في الشّعر والأدب والفنون!
ومع أنّ نظريتي «الشخصية» تقول إننا لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نُحب، وإذا أحببنا لا نعترف، وإذا اعترفنا لا نترك آثاراً للإعتراف، فإن أدونيس كان مختلِفاً عندنا بحيث قرأناه وأحببناهُ واعترفنا بحبنا، لكنْ من حق الأسئلة أن تنفجر...
... أم أن موقع هذا الكلام كلّه في كفّةٍ من الميزان، وفي الكفّة المقابِلة هناك الحقيقة المدوّية التي ثَبتَت على مدى الزمان وهي أن الفنان (كما أي إنسان) في الثلث الأخير من عمره يصطدم بجدارِ صعوبةِ أو استحالةِ التعبير عن جديد، فيستعيد ما كان منهُ شخصيّاً كأنه ما كان؟ أغلبُ الفنانين، إذا راجعنا إبداعاتهم في الثلثين الأوّلين من حياتهم، وقارنّاه بنتاج الثلث الباقي نصلُ بهم إلى هُنا. وتطُول المسافة أو تقصُر حسَب هِمّة الإنسان وقِواه روحاً وجسَداً!
قلتُ إلى هُنا! أين هُنا؟