30 كانون الثاني 2024 12:00ص الإنسان مُسيّر أم مُخيّر؟

حجم الخط
هذه إشكالية حارت فيها الألباب وكثر حولها الجدل وقامت من أجلها فرق ومذاهب شرقا وغربا. فمن قائل بأن الإنسان مخلوق ضعيف لا يملك من أمر نفسه شيئا، وان مسيرته في الحياة مقررة ومحددة له منذ الأزل... إلى قائل بأن الإنسان سيد نفسه، وهو قادر على توجيه سفينة حياته الوجهة التي يشاء.
حجّة الفريق الأول أن الإنسان يفد إلى هذه الدنيا ويغادرها في معزل عن إرادته. ولا يد له في تقرير نسبة ذكائه أو لون بشرته أو شكله العام. ولا خيار له في الأبوين اللذين ينجبانه، ولا في البلد الذي يبصر فيه النور. وقد عبّر المعري عن هذه الحقيقة بقوله:
ما باختياري ميلادي ولا هرمي
ولا مماتي، فهل لي بعد تخيير؟!
ويذهب فيلسوف الشعراء إلى أبعد من ذلك ويؤكد أن الإنسان لا يقوى -مهما أوتي من فطنة وبصيرة وعلو همّة- على أن يضمن النجاح في ما يرسمه من خطط أو يبذله من جهود لتحقيق أمنياته وأهدافه في الحياة... ويتفق طه حسين مع أبي العلاء في قدريته -على الرغم من تباين ظروفهما وتباعد عصريهما- إذ يقول: «ليست حياة الناس رهنا بمشيئتهم أو بما يرسمون ويخططون، وإنما هي أمور خفيّة يجريها القضاء لا يؤامر فيها أحدا». ويعبّر شكسبير في مسرحيته «هاملت» عن الاقتناع نفسه بقوله: «ثمة قدرة إلهية تكيّف مصائرنا رغم إرادتنا».
أما الفريق الثاني، فيرى أن الإنسان هو الوحيد بين المخلوقات الذي يملك العقل والإرادة معا. بالعقل يدرك حسنات كل شيء يعرض له وكذلك سيئاته، كما يستطيع أن يقدّر عواقب الخطوات التي ينوي اتخاذها... وبالإرادة يستطيع أن يمضي قدما نحو تحقيق الأهداف التي يتوق إلى تحقيقها، على أن يتوسّل الجدّ والمثابرة مركبا وسبيلا إلى النجاح، وقديما قيل: «من جدّ وجد ومن زرع حصد».
قد يعترض معترض فيقول: «لطالما سمعنا عن أناس جعلوا الجدّ مركبهم والعقل رائدهم إلّا أنهم لم يتمكّنوا من تحقيق ما كانوا يطمحون إلى تحقيقه، فذهبت جهودهم أدراج الرياح!»...
نجيب بأن ثمة أمورا قد تتجاوز إرادة الإنسان ونطاق تبصّره أو تصوّره لما يقع له أو يعترض طريقه من مفاجآت أو أحوال طارئة، وهذا ما يحدّ من إمكان نجاح الإنسان في ما هو بصدده، وهذه المفاجآت والأحوال تترجم إرادة القدر. وإذا شئنا أن نلخّص الموضوع ونجلو ما يعتوره من ضبابية وغموض، فلا يسعنا إلّا القول إن الإنسان مُخيّر في كل ما يقع ضمن نطاق تصوّره وتبصّره وتدبّره، إلّا أنه مُسيّر في كل ما يخرج على نطاق تصوّره وتبصّره وتدبّره... غير أن هذه الحقيقة ينبغي ألا تثبط هممنا أو تثنينا عن تعيين أهداف لنا في الحياة والسعي لبلوغها رغم كل العقبات... على الإنسان أن يسعى وليس عليه، ضرورة، إدراك النجاح الذي قد يكون نجاحا «اجتماعيا» ليس إلّا!...

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه