بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 أيار 2024 12:00ص البيوت البيروتية في مدوّنات الرّحالة القدماء

باطن بيروت في ستينيات القرن التاسع عشر بعدسة الفرنسي Honoré Leeuw باطن بيروت في ستينيات القرن التاسع عشر بعدسة الفرنسي Honoré Leeuw
حجم الخط
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى
ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ

إذا سرت اليوم في محلة وطى المصيطبة البيروتية، وتحديداً بين مستديرة الكولا وصولاً للأونيسكو، فسيلفت نظرك تواجد عدد من محلات ومستودعات ومعامل الرخام والبلاط وأحجار البناء. إن وجود هذه المراكز التجارية والصناعية في تلك المحلّة ليس من قبيل الصدفة، بل هو امتداد زمني لما كان يعرف بمقالع بيروت قديماً.
كانت معظم بيوت بيروت مبنية بالحجر الرملي الذي كان يُجلب من مقالع منطقتي الزيدانية والمصيطبة، تحملها أرتال من الحمير، عُرفت بحمير الحجّارة،  من المقلع إلى موقع البناء. وكانت هذه البيوت مبنية على طراز البيوت العربية القديمة التي وجدت في دمشق والقاهرة وبغداد وغيرها من المدن العربية. أخذ طراز العمارة المذكور ميزاته من عاملين هما المناخ والأعراف الأخلاقية والاجتماعية. وقد تميّزت العمارة المذكورة بالاهتمام بداخل البيت الذي كان يتألف من فناء داخلي هو عبارة عن فسحة سماوية، تحتوي بركة ماء، تزرع حولها نباتات مزهرة كالياسمين والفل والفتنة، وأشجار مثمرة كالليمون والأكي دنيا وغيرها. وتتوزع الغرف في الطبقة الأرضية حول الفناء المذكور، تعلوها طبقة ثانية يصعد إليها بسلّم داخلي، إلى ممرّ يُدخل منه إلى الغرف العليا. ولم يكن ثمة شرفات أو نوافذ تطل على الطريق، بل أمّنت القمريات المرتفعة وصول النور والضياء إلى الغرف. 
*****
- القمرية: نافذة صغيرة ذات تغشية من الجص أو الحجر المفرغ أو خشب الخرط. وهي مسديرة الشكل في أغلب المباني البيروتية القديمة وقليل منها كان على أشكال نباتية وهندسية متشابكة أو مخرمة، غالباً ما كانت تعشق بالزجاج. دورها الوظيفي في الإضاءة والتهوية ودورها الجمالي في الشكل والزخارف.
إلى بداية ستينيات القرن الماضي كانت هذه البيوت تتميز بالبساطة مع اتساع الغرف وضرورة وجود حديقة و»سطيحة» و«علّية» تظللها عرائش العنب خاصة على واجهاتها الشمالية والغربية، مما يبعث في النفس الهدوء والطمأنينة بعد يوم عمل شاق.  يقول المؤرخ عبد اللطيف فاخوري في «منزول بيروت»: يمكن ملاحظة التناسق بين العائلة والبيت والمدينة. فالمدينة يحدها سور تقفل أبوابه مساءً، والبيت مقفل على الخارج لا ينبي مظهره عن داخله. والعائلة تتوزع الغرف وتشترك في المنافع العامة له بعيداً عن أعين الغرباء، يتحرك أفرادها ويتنقلون ويمشون فيه بكل راحة وطمأنينة. إذا أمطرت جلسوا تحت القسم المسقوف من أرض الدار ـ الفسحة السماوية ـ وإذا اعتدل الحر جلسوا حول البركة في وسط الفسحة المذكورة. فإذا اشتد الحر صيفاً صعدوا إلى العلّيات وسهروا وتمتعوا بالهواء الغربي الذي وصفوه بالحنون وغنوا له: يا رب يدوّر غربي تيرجع حبيب قلبي»  [بيروتنا: عيتاني وفاخوري]. وعن هواء بيروت اللطيف كتب الشاعر الملحمي اليوناني ننّوس قبل حوالي 1600 عام: «... إنها مدينة «بيروي» [بيروت]، سحر حياة الإنسان... منتشرة تحت جسر كثيف من غابات لبنان «الأسّيري» في الشرق المتوهّج، حيث يهبّ على سكانها نسيم منعش للحياة، يوشوش عالياً، وهو يحرّك أشجار السرو بنفحات من العطور...».
في مطلع ثمانينيات القرن الخامس عشر الميلادي، وصف النبيل الفلمنكي فان غيستيل Joos van Ghistele بيروت بأنها «مدينة عامرة بالمنازل والناس تحيط بها المراعي والجنائن، خاصة أشجار الرمان والليمون والحامض والزيتون والتين واللوز. وهواء المدينة نقيّ لدرجة أن المرضى من تجار دمشق وحلب وطرابلس يقصدونها للمعافاة..».
عن بيوت بيروت يقول الدكتور لويس لورته في رحلته الشهيرة «مشاهدات من لبنان» في العامين 1875 و1880:
«وهيئة بيروت اليوم تختلف عما كانت عليه منذ سنوات، فقد أنشئ حي جميل في وسط البساتين التي تُشرف على الفرضة، وشيّدت بنايات كبيرة على الروابي المحيطة، فألبست المدينة هيئة مهيبة. والبيوت الجديدة تكاد تكون كلها مبنية على نسق واحد: طبقة سفلى تحتوي على مرابط الخيول، ومخازن المؤن، وغيرها. ثم يرتفع سلّم واسع من الرخام الأبيض، يقود إلى الصحن الكبير المتوسط، ويخترق المنزل من مكان إلى آخر، وقد فتحت فيه نوافذ واسعة قوطية الطراز تطلّ من الشمال على البحر، ومن الجنوب على لبنان. وفي طرفي المنزل عواميد تحمل سقفاً عالياً، وترتفع حتى السطوح. وامامه شرفة أنيقة يتنسم عليها أصحابه الهواء الرطب الآتي من الشاطئ. وفي صدر الصحن ردهة صغيرة مفصولة بأعمدة صغيرة يُصعد إليها بدرجتين أو ثلاث، وتستخدم إمّا للاستقبال، أو كغرفة للمائدة. وتستند إلى الحيطان دواوين معدّة  للقيلولة. وكل غرف النوم تُفتح على هذا الصحن، وتنفذ أحياناً إلى أروقة واسعة خارجية تسند سقوفها أعمدة من الحجر الكلسي الأصفر الذهبي، أو من الحجر المشحّم بالأبيض. والأرض مبلّطة بالرخام الإيطالي، تنبسط فوقه سجادات ذات ألوان نضرة، وتبرز من السقوف الصندوقية الشكل، عوارض من صنوبرات ضخمة نمساوية النوع، تذهّبها شمس المشرق الساطعة.
كتب أوبنهايم في كتابه «من البحر المتوسط إلى الخليج» عن هذه البيوت خلال إقامته في بيروت صيف 1893: «يسعى أسلوب بناء البيوت الجديدة في بيروت إلى التكيّف مع المناخ كما هو الحال في كثير من مناطق أوروبا الجنوبية. والطابع المميز لهذه البيوت هو الصالة المتوسطة الكبيرة «الدار» الموجودة في الطابق الأرضي وفي الطوابق العليا والتي تأخذ غالباً عمق البيت كاملاً وتصب فيه جميع الغرف. أما نوافذ الدار الكبيرة جداً والعالية جداً والتي تتجه غالباً نحو الأعلى بشكل قوسي فتزيَّن من جهة الشارع بمشبك من الحديد المصنوع بشكل فني أنيق. في بعض الأحيان تكون الصالة مقسمة بأعمدة وشبابيك زجاجية تؤدي إلى غرفة واقعة في الخلف تسمّى «الليوان». وفي نفس هذه السنة ذكر العلامة والرحالة الهندي شبلي النعماني أنه في الجانب القديم من المدينة البيوت منخفضة وغير فسيحة، ولكن الجانب الحديث ذا بهاء وجمال.
أما الرحالة المصري عبد الرحمن بك سامي فقد قال في بيوت بيروت أواخر القرن التاسع عشر في كتابه «القول الحق في بيروت ودمشق»:  «وقد أعجبني فيها شوارعها الواسعة على النسق الأوربي، ونور الغاز، وجمل أبنيتها وتنظيمها وكبرها، وكثرة الجنائن فيها. فإن كل بيت أمامه جنينة وبيوتها الجديدة غير ملتصق بعضها ببعض، فهي بذلك أشبه بحي الاسماعيلية في القاهرة. مع أن بيوت بيروت القديمة، وبعرف أهاليها (داخل الصور) لا تزال على الطراز القديم من جهة ضيق الشوارع، ولكن مساحتها صغيرة لا تزيد عن كيلومترين مربعين. وهي واقعة في نصف المدينة الحديثة».

(يتبع الجزء الثاني)
* مؤسس ورئيس جمعية تراث بيروت